وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] .
فأخبر أن إيثارهم إنما هو بالشيء الذى إذا وقى الرجل الشح به كان من المفلحين، وهذا إنما هو فضول الدنيا لا الأوقات المصروفة فى الطاعات.
فإن الفلاح كل الفلاح فى الشح بها فمن لم يكن شحيحاً بوقته تركه الناس على الأرض [عياناً] مفلساً، فالشح بالوقت هو عمارة القلب وحفظ رأْس ماله.
ومما يدل على هذا أنه سبحانه أمر بالمسابقة فى أعمال البر والتنافس فيها والمبادرة إليها، وهذا ضد الإيثار بها. قال الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران: 133] ، وقال تعالى: {فَاسْتَبقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] [المائدة: 48] ، وقال تعالى: {وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26] ، وقال النبى صلى الله عليه وسلم: "لو يعلم الناس ما فى النداءِ والصف الأول لكانت قرعة". والقرعة إنما تكون عند التزاحم والتنافس لا عند الإيثار فلم يجعل الشارع الطاعات والقربات محلاً للإيثار، بل محلاً للتنافس والمسابقة، ولهذا قال الفقهاءُ: لا يستحب الإيثار بالقربات والسر فيه- والله أعلم- أن الإيثار إنما يكون بالشيء الذى يضيق عن الاشتراك فيه، فلا يسع المؤثر والمؤثر، بل لا يسع إلا أحدهما، وأما أعمال البر والطاعات فلا ضيق على العباد فيها، فلو اشترك الألوف المؤلفة فى الطاعة الواحدة لم يكن عليهم فيها ضيق ولا تزاحم ووسعتهم كلهم، وإن قدِّر التزاحم فى عمل واحد أو مكان لا يمكن أن يفعله الجميع- بحيث إذا فعله واحد فات على غيره، فإن فى العزم والنية الجازمة على فعله من الثواب ما لفاعله كما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم فى غير حديث، فإذا قدر فوت مباشرته له فلا يفوت عليه عزمه ونيته لفعله.
وأيضاً فإنه إذا فات عليه كان فى غيره من الطاعات والقربات عوض منه: إما مساوٍ له، وإما أَزيد، وإما دونه. فمتى أتى بالعوض وعلم الله من نيته وعزيمته الصادقة إرادته لذلك العمل الفائت أعطاه الله ثوابه وثواب ما تعوض [به عنه فجمع له الأمرين. وذلك فضلا الله يؤتيه] من يشاءُ والله ذو الفضل العظيم.
وأَيضاً فإن المقصود رغبة العبد فى التقرب إلى الله، وابتغاء الوسيلة إليه والمنافسة فى محابه، والإيثار بهذا التقرب يدل على رغبته عنه وتركه له، وعدم المنافسة فيه، وهذا بخلاف ما يحتاج إليه العبد من طعامه وشرابه ولباسه إذا كان أخوه محتاجاً إليه، فإذا اختص به أحدهما فات الآخر، فندب الله [سبحانه] عبده إذا وجد من نفسه قوة وصبراً