..
...
درن العلل وشوائب النفس، وهى التى [تستلزم إيثار المحبوب على غيره ولا بد وكلما كان سلطان هذه المحبة أقوى كان هذا الإيثار أتم] تتزايد، وفى مثل هذا قيل:
تعصى الإله وأنت تزعم حبه ... هذا لعمرك فى القياس شنيع
لو كان حبك صادقاً لأطعته ... إِن المحب لمن يحب مطيع
وهاهنا دقيقة ينبغى التفطن لها، وهى أن إيثار المحبوب نوعان: إيثار معاوضة ومتاجرة، وإيثار حب وإرادة.
فالأول: يؤثر محبوبه على غيره طلباً لحظه منه، فهو يبذل ما يؤثره ليعاوضه بخير منه.
والثانى: يؤثره إجابة لداعى محبته، فإن المحبة الصادقة تدعوه دائماً إلى إيثار محبوبه، فإيثاره هو أجلّ حظوظه، فحظه فى نفس الإيثار لا فى العوض المطلوب بالإيثار، وهذا لا تفهمه إلا النفس اللطيفة الورعة المشرقة، وأما النفس الكثيفة فلا خبر عندها من هذا، وما هو بعشها فتلدرج.
والدين كله والمعاملة فى الإيثار، فإنه تقديم وتخصيص لمن تؤثره بما تؤثره به على نفسك، حتى [قيل] أن من شرطه الاحتياج من جهة المؤثر، إذ لو لم يكن محتاجاً إليه لكان بذله سخاءً وكرماً.
وهذا إنما يصح فى إيثار المخلوق، والله سبحانه يؤثر عبده على غيره من غير احتياج منه سبحانه فإنه الغنى الحميد، وفى الدعاء المرفوع: "اللَّهم زدنا ولا تنقصنا، وأعطنا ولا تحرمنا وأكرمنا ولا تهنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارضنا وارض عنا".
وقيل: من آثره الله على غيره آثره الله على غيره. والفرق بين الإيثار والأثرة أن الإيثار تخصيص الغير بما تريده لنفسك والأثرة اختصاصك به على الغير، وفى الحديث: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فى عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا".
فإذا عرف هذا، فالإيثار إما أن يتعلق بالخلق، وإما أن يتعلق بالخالق. وإن تعلق بالخلق فكماله أن تؤثرهم على نفسك بما لا يضيع عليك وقتاً، ولا يفسد عليك حالاً، ولا يهضم لك ديناً ولا يسد عليك طريقاً، ولا يمنع لك وارداً.
فإن كان فى إيثارهم شيء من ذلك، فإيثار نفسك عليهم أولى، فإن الرجل من لا يؤثر بنصيبه من الله أحداً كائناً من كان.
وهذا فى غاية الصعوبة على السالك، والأول أسهل منه. فإن الإيثار المحمود الذى أثنى الله على فاعله: الإيثار بالدنيا لا بالوقت والدين وما يعود بصلاح القلب. قال الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفَسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ