ولم يبق إلا صادق الوعد وحده ... فما لوعيد الحق عين تعاينُ

وإن دخلوا دار الشقاءِ فإنهم ... على لذة فيها نعيم مباين

يسمى عذاباً من عذوبة طعمه ... وذاك له كالقشر والقشر صائن

نعيم جنان الخلد والأمر واحد ... وبينهما عند التجلى تباين

فهذا القائل خط على تلك النقطة التى نقطها أبو العباس ولعل الكلامين من مشكاة واحدة، وهذا مباين للمعلوم بالاضطرار من دين الرسل وما أخبرت به عن الله وأخبر به على لسان رسله.

فإن قيل: ليس مراده ما ذكرتم وفهمتم من كلامه، وإنما مراده أنه سبحانه إذا ابتلى عبده فى الدنيا فهو لكمال محبته له يتلذذ بتلك البلوى ويعدها نعمة، وليس مراده عذاب الآخرة.

قيل قوله عن الخواص: "أنهم جعلوا الوعيد منه وعداً" ينفى ما ذكرتم من التأْويل، فإن ابتلاءِ الدنيا غير الوعيد. وأيضاً فإنه فى مقام الخوف ونفيه عن الخاصة محتجاً عليه بأنهم يرون العذاب عذباً والوعيد وعداً، فما لهم وللخوف؟ هذا مقصوده من سياق كلامه واحتجاجه عليه بهذا الهذيان الذى يسخر منه العقلاءُ.

بل نحن لا ننكر أن العبد إذا تمكن حب الله فى قلبه حتى ملك جميع أجزائه فإنه قد يتلذذ بالبلوى أحياناً، وليس ذلك دائماً ولا أكثرياً، ولكنه يعرض عند هيجان الحب وغلبة الشوق، فيقهر شهود الألم، ثم يراجع طبيعته فيذوق الألم. ولكن أين هذا من جعل الوعيد وعداً، والعذاب عذباً؟ وإن أحسن الظن بصاحب هذا الكلام ظن به أَنه ورد عليه وارد من الحب يخيل فى نفسه أن محبوبه إذا توعده كان ذلك منه وعداً وإن عذَّبه كان عذابه عنده عذباً لموافقته مراد محبوبه، وهذا خيال فاسد وتقدير فى النفس، وإلا فالحقيقة الخارجية تكذِّب هذا الخيال الباطل.

بل لو صب عليه أدنى شيء من عذابه لصاح واستغاث وطلب العفو والعافية. وحكمة الله تقتضى تعجيز هذه النفوس الجاهلة الرعناءِ الحمقاءِ بأدنى شيء يكون من الألم والوجع، حتى يتبين لها دعاويها الكاذبة، وشطحها الباطل.

وهذا سيد المحبين وسيد ولد آدم استعاذته بالله من عذابه وبلائه وسؤاله عافيته ومعافاته، معلومة فى أدعيته وتضرعه إلى ربه وابتهاله إليه فى ذلك، وهى أكثر وأشهر من أن تذكر ههنا، وإن ما فى سيد المحبين أسوة وقدوة، ولكن قد ابتلى كثير من أهل الإرادة بالشطح، كما ابتلى كثير من أهل الكلام

طور بواسطة نورين ميديا © 2015