وهؤلاء قابلوا أصحاب الطريق الثانى: وهم الذين أثبتوا له حكمة وغاية، وقالوا: لا يفعل شيئاً إلا لحكمة وغاية مطلوبة، ولكن حجروا عليه سبحانه فى ذلك، وشرعوا له شريعة وضعوها بعقولهم وظنوا أن ما يحسن من خلقه يحسن منه وما يقبح منهم يقبح منه، فجعلوا ما أثبتوه له من الحكمة والرحمة من جنس ما هو للخلق، ولهذا كانوا "مشبهة الأفعال" كما أن من شبهة بخلقه فى صفاته فهو "مشبه الصفات" فاقتسموا التشبيه نصفين: هؤلاء فى أفعاله، وإخوانهم فى صفاته. وقالوا: إِنه تعالى لو خصّ بعض عبيده عن بعض بإِعطائه توفيقاً وقدرة وإرادة ولم يعطها لآخر لكان ظلماً للذى منعه. وقالوا: لو شاءَ من عباده أَفعال المعاصى لكان ينزه عنه كما فى المشاهد ولو شاءَ منهم الكفر والفسوق والعصيان ثم عذبهم عليه لكان ظلماً فى المشاهد أَيضاً، فإن السيد إذا أراد من عبده شيء ففعل ما أراد سيده، فإِنه إذا عذبه عده الناس ظالماً له، وجعلوا العدل فى حقه تعالى من جنس العدل فى حق عباده، والظلم الذى تنزه عنه كالظلم الذى يتنزهون عنه، وجعلوا ما يحسن منه من جنس ما يحسن منهم وما يقبح منه من جنس ما يقبح منهم. وقالوا: لو أَراد الشر لكان شريراً كما فى المشاهد، فإن مريد الشر شرير. وقالوا: لو ختم على قلوب أَعدائه وأسماعهم وحال بينهم وبين قلوبهم وأَضلهم عن الإِيمان وجعل على أَبصارهم غشاوة وجعل من بين أَيديهم سداً ومن خلفهم سداً ثم عذبهم لكان ظالماً لهم، لأَن أَحدنا لو فعل ذلك بعبده ثم عذبه لكان ظالماً له. فهؤلاء المشبهة حقاً فى الأفعال، فعدلهم تشبيه وتوحيدهم تعطيل، فجمعوا بين التشبيه والتعطيل.
وهؤلاء قسموا الشر الواقع فى العالم إلى قسمين: أحدهما: "شرور هى أفعال العباد" وما تولد منها، فهذه لا تدخل عندهم فى القضاءِ الإلهى تنزيهاً للرب عن نسبتها إليه، ولا تدخل عندهم تحت قدرته ولا مشيئته ولا تكوينه.
والثانى: "الشرور التى لا تتعلق بأفعال العباد" كالسموم والأمراض وأنواع الآلام، وكإبليس وجنوده وغير ذلك من شرور المخلوقات كإيلام الأأطفال وذبح الحيوان، فهذا النوع هو الذى كدَّر على القدرية أُصولهم وشوش عليهم قواعدهم وقالوا: ذلك كله حسن لما فيه من اللطف والمصلحة