وللناس طرق فى دخول الشر فى القضاء الإلهى فنذكرها ونذكر أصولهم التى تفرعت عليها هذه الطرق قبل ذلك. فنقول: للناس قولان: أحدهما قول أهل الإسلام وأَتباع المرسلين كلهم إِن الله سبحانه فعال لما يريد يفعل باختياره وقدرته ومشيئته، فما شاءَ كان وما لم يشأْ لم يكن، وهو الذى يعبر عنه متأخرو المتكلمين بكونه: "فاعلاً بالاختيار".
وللفريق الثانى قول من نفى ذلك، وقال: صدر العلم عنه تعالى صدوراً ذاتياً كصدور النور عن الشمس والحرارة عن النار والتبريد عن الماء، ويسمى المتكلمون هذا "الإيجاب الذاتى". ومصدره موجبات الذات، وهذا قول الفلاسفة المشّائين وهو الذى يذكره ابن الخطيب وغيره عن الفلاسفة، ولا يحكى عنهم غيره، وإنما هو قول المشائين، وقرّبه متأَخرهم وفاضلهم ابن سينا إلى الإِسلام بعض التقريب، مع مباينته لما جاءت به الرسل، ولما دل عليه صريح العقل والفطرة.
والفريقان متفقون على أن مصدر الكائنات بأَسرها خير محض من جميع الوجوه وكمال صرف، ووجود الشر فى العالم مشهود، والخير لا يصدر عنه إلا خير. ولا جرم اختلفت طرقهم فى كيفية دخول الشر فى القضاء الإِلهى وتنوعت إلى أَربعة طرق:
الطريق الأول: طريق نفاة التعليل والحكمة والأسباب، فإنهم سدوا على أنفسهم هذا الباب وأثبتوا مشيئة محضة لا غاية لها ولا سبب ولا حكمة تفعل لأجلها، ولا يتوقف فعل المختار بها على مصلحة ولا حكمة، ولا غاية لها تفعل، بل كل مقدور يحسن منه فعله، ولا حقيقة عندهم للقبيح لولا المستحيل لذاته الذى لا يوصف بالقدرة عليه. وهؤلاء نفوا مسمى الرحمة والحكمة وإِن أَقروا بلفظ لا حقيقة له، وكان شيخهم الجهم بن صفوان يقف بأصحابه على المجذومين وهم يتقلبون فى بلائهم فقول: أَرحم الراحمين يفعل مثل هذا، يعنى أنه ليس فى الحقيقة رحمة، وإنما هو محض مشيته وصرف إرادة مجردة عن الحكمة والرحمة.