منهجان -على ما بينهما من فروق- متكملان في الإستدلال، ولا يستغني الواحد منهما عن الآخر في عملية المبحث عن الحقيقة. فالقياس في حاجة إلى استقراء سابق لإثبات مقدماته الكلية، كما أن الاستقراء يحتاج في النهاية إلى عملية قياسية لإثبات النتيجة والتحقق من صدقها، ويتم تكاملهما في جانبين:

الأول: أن الاستقراء هو الذي يمدُّ القياس بمقدماته الكبرى، ومن هذه الناحية

يكون الاستقراء سابقًا للقياس.

وهذه الحقيقة أثارت مشكلة منطقية في نتيجة القياس، إذ المشهور عند المناطقة أن القياس يفيد عادة القطع واليقين إذا سلمت مقدماته، وأن الاستقراء الناقص لا يفيد إلَّا الظن، ولما كانت المقدمات الكبرى للقياس ناتجة في الغالب عن استقراء ناقص -وهي تفيد مجرد الظن- كان القول بإفادة القياس اليقين أمرًا غير مسلَّم، إذ كيف يُنْتج ما بُنِي على ظني يقينًا؟ وربماكان هذا هو الذي دفع ابن سينا إلى إنكار كون المقدمات الأولية للقياس ثابتة بالاستقراء، وإنما هي -في رأيه- ثابتة على أساس وضوحها الذاتي. (?) ولكن هذا المخرج غير مسلَّم، إذ مِنْ أين يأتي هذا الوضوح الذاتي؟ فمصدره في الحقيقة لا يعدو أن يكون إمَّا معارف عقلية قبلية أو بدهيات يسلم بها العقل، وإما أن يكون ناتجًا عن الخبرة التاريخية للإنسان الناتجة عن مشاهدة تكرر هذا الحادث (وهو الاستقراء) حتى صارت هذه القضية من باب المسلمات الواضحة ذاتيًّا، ولا يهم ما آلت إليه هذه القضية، إنما المهم أنها في أصلها نتيجة عملية استقرائية. ثم الواقع يدلنا على أن أصل أكثر مقدمات الأقيسة نتائج استقرائية وإن لم يصرح بذلك، بل هي نتائج استقراءات ناقصة.

وينبني التنبيه هنا على أنه مع كون أكثر المقدمات الكبرى للقياس المنطقي عمومات استقرائية ظنية، لأنها ناتجة عن استقراءات ناقصة، ومن ثم فإن نتيجة القياس ستكون تابعة لصدق هذه المقدمات، إلَّا أن الأمر مختلف في الأقيسة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015