قال ابن أبي حاتم: ثنا الربيع بن سليمان، سمعت الشافعي، يقول: قدمت على مالك وقد حفظت الموطأ ظاهرا، فقلت: إني أريد أن أسمع الموطأ منك، فقال: اطلب من يقرأ لك، وكررت عليه، فقلت: لا عليك أن تسمع قراءتي فإن سهل عليك قرأت لنفسي، قال: اطلب من يقرأ لك، وكررت عليه، فقال: اقرأ، فلما سمع قراءتي، قال: اقرأ، فقرأت عليه حتى فرغت منه، وحكى الإمام أحمد، عن الشافعي، رضي الله عنهما، أنه قال: أنا قرأت على مالك وكانت تعجبه قراءتي، قال الإمام أحمد: لأنه كان فصيحا، قلت: وكذلك كان حسن الصوت بتلاوة القرآن، كما سنذكره بعد، وقال ابن أبي حاتم: حدثني أبو بشر الدولابي في
طريق مصر، قال: ثنا أبو بكر بن إدريس وراق الحميدي، سمعت الحميدي يقول: قال الشافعي، رضي الله عنه: وليت نجران وبها بنو الحارث وموالي ثقيف فجمعتهم فقلت: اختاروا سبعة منكم فمن عدلوه كان عدلا ومن جرحوه كان مجروحا، فجمعوا لي سبعة منهم، فجلست للحكم، فقلت للخصوم: تقدموا فإذا شهد الشاهد عندي التفت إلى السبعة فإن عدلوه كان عدلا وإن جرحوه قلت زدني شهودا، فلما أتيت على ذلك، وجعلت أسجل، وأحكم، فنظروا إلى حكم جار فقالوا: إن هذه الضياع والأموال التي تحكم علينا فيها ليست لنا وإنما هي لمنصور بن المهدي في أيدينا، فقلت للكاتب: اكتب وأقر فلان بن فلان الذي وقع عليه
حكمي في هذا الكتاب أن هذه الضيعة، أو المال الذي حكمت عليه ليست له، وإنما هي لمنصور بن المهدي، ومنصور بن المهدي على حجته متى قام، قال: فخرجوا إلى مثله فيم يزالوا يعملون حتى رفعت إلى العراق فقيل لي: الزم الباب، فنظرت فإذا أنا لا بد لي من الاختلاف إلى بعض أولئك، وكان محمد بن الحسن جيد المنزلة عند هارون فاختلفت إليه، وقلت: هذه أشبه بي من طريق العلم، فكتبت كتبه وعرفت قولهم، فكان إذا قام ناظرت أصحابه.
قال ابن أبي حاتم: ثنا الربيع، سمعت الشافعي، رضي الله عنه، يقول: حملت عن محمد بن الحسن حمل بختي ليس عليه إلا سماعي، وثنا أحمد بن سريج: سمعت الشافعي، رضي الله عنه، يقول: أنفقت على كتب محمد بن الحسن ستين دينارا ثم تدبرتها، فوضعت إلى جنب كل مسألة حديثا ردا عليه، قلت: هذا كله كان في قدوم الشافعي، رضي الله عنه، بغداد في القدمة الأولى، وكان ذلك في سنة أربع وثمانين ومائة، بعد موت القاضي أبي يوسف، رحمه الله، بسنتين، فلم يدركه ولا رآه، وما ذكره عبد الله بن محمد البلوي في رحلة الشافعي، رضي الله عنه، في مناظرة الشافعي، رضي الله عنه، أبا يوسف بحضرة الرشيد
وتأليب أبي يوسف عليه، فكلام مكذوب باطل، اختلقه هذا البلوي، قبحه الله وأبو يوسف، رحمه الله، كان أجل قدرا وأعلى منزلة مما نسب إليه، وإنما أدرك الشافعي، رضي الله عنه، في هذه القدمة محمد بن الحسن الشيباني، وأنزله في داره، وأجرى عليه نفقة، وأحسن إليه بالكتب، وغير ذلك رحمهم الله، وكانا يتناظران فيما بينهما كما جرت عادة الفقهاء، هذا على مذهب أهل الحجاز، وهذا على مذهب أهل العراق، وكلاهما بحر لا تكدره الدلاء، وقد بعث الشافعي، رضي الله عنه، في وقت يطلب من محمد بن الحسن كتبا عينها، فتأخر إرسالها فكتب إليه:
قل للذي لم تر عينا من رآه مثله ... ومن كان من رآه قد رأى من قبله
العلم ينهي أهله أن يمنعوه أهله ... لعله يبذله لأهله لعله
ويقال: إن هذه الأبيات لمحمد بن الحسن وذلك فيما نقله ابن عساكر بإسناد، عن الشافعي، رضي الله عنه، أنه قال: كنت أنظر في جزء تجاه محمد بن الحسن، فقال: أرني ما تنظر فيه فلم أره، فتناول القلم والقرطاس فكتب هذه الأبيات، قلت: ولم يجتمع الإمام الشافعي، رضي الله عنه، في هذه القدمة بأحمد بن حنبل، ولا بغيره من المحدثين، لأن أحمد، رحمه الله، كان عمره إذ ذاك عشرين سنة، أو نحوها، ولم يكن مشهورا، وإنما اجتمع بهم في القدمتين الأخرتين في سنة خمس وتسعين، وأقام ببغداد سنتين ثم رجع إلى مكة، ثم عاد إلى بغداد في سنة ثمان وتسعين، فأقام أشهرا ثم خرج إلى مصر، فأقام بها
حتى مات، رحمه الله ورضي عنه، سنة أربع ومائتين، وكان سبب وروده بغداد في المرة الأولى بظلم أولئك النفر من أهل نجران عليه في أحكامه عليهم، وقد كان فيها بارا راشدا تابعا للحق، رحمه الله، ثم عاد إلى بلده وطلبه، وكان في جميع أحواله يطلب العلم، ولا يصده عن ذلك صاد، ولا يثنيه عنه راد.
قال ابن أبي حاتم: ثنا يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي الشافعي، رضي الله عنه: ما اشتد على فوت أحد مثل فوت ابن أبي ذئب، والليث بن سعد، رحمهما الله، وثنا أحمد بن سلمة بن عبد الله النيسابوري، عن أبي بكر بن إدريس وراق الحميدي، سمعت الحميدي، يقول: قال الشافعي، رضي الله عنه: خرجت إلى اليمن في طلب كتب الفراسة حتى كتبتها وجمعتها، ثم لما حان انصرافي مررت برجل في طريقي وهو محتبي بفناء داره أزرق العين ناتئ الجبهة سناط، فقلت: هل من منزل؟ قال: نعم، قال الشافعي، رضي الله عنه، وهذا النعت أخبث ما يكون في الفراسة، فأنزلني، فرأيت أكرم رجل بعث إلي بعشاء، وطيب،
وعلف لدابتي، وفراش ولحاف، وجعلت أتقلب الليل أجمع ما أصنع بهذه الكتب، إذ رأيت هذا النعت في هذا الحال فلما أصبحت قلت للغلام: اسرج فأسرج، فركبت ومررت عله، وقلت له: إذا قدمت مكة ومررت بذي طوى فسل عن منزل محمد بن إدريس الشافعي، فقال لي الرجل: أمولى لأبيك أنا؟ قلت: لا، قال: فهل كانت لك عندي نعمة؟ قلت: لا، قال: أد ما تكلفت لك البارحة، قلت: وما هو؟ قال: اشتريت لك طعاما بدرهمين، وإداما بكذا، وعطرا بثلاثة دراهم، وعلفا لدابتك بدرهمين، وكرا الفراش واللحاف بدرهمين، قال: قلت: يا غلام أعطه، فهل بقي من شيء؟ قال: كرا المنزل فإني وسعت عليك وضيقت على نفسي، قال
الشافعي، رضي الله عنه: فغبطت نفسي بتلك الكتب فقلت له بعد ذلك: هل بقي من شيء، قال: امض أخزاك الله فما رأيت قط أشر منك.
قلت الشافعي، رضي الله عنه، نشأ باليمن، كما تقدم، ثم قدم مكة مع أمه، ثم رجع إلى اليمن في حال الشبيبة فولي بها بعض الأعمال، وحمد فيها ثم رجع إلى مكة، فلامه على ذلك بعض العلماء، منهم: إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، وسفيان بن عيينة، وكانت موعظة سفيان أنجع عند الشافعي، رضي الله عنه، ثم بعد ذلك ولي الحكم بنجران، كما تقدم، وكان من أمره ما كان، وروى ابن عساكر بأسانيده، أن نائب اليمن كتب إلى الرشيد يشكو إليه من جماعة من الطالبيين، وكانوا ينسبون إلى التشيع، وأدمج معهم الإمام الشافعي، رضي الله عنه، فبعث الرشيد إلى نائب اليمن في طلبهم وأنهم يبعثون مثقلين
بالحديد فلما دخل الشافعي، رضي الله عنه، بغداد، واجتمع بأمير المؤمنين، وجرى بينه وبين محمد بن الحسن مناظرات حسنة، وعرفوا فضل الشافعي، وإمامته، وسيادته، عظموه وأكرموه، وأنزله محمد بن الحسن في بعض منازله وأجرى عليه الإحسان والتفضيل وكانا يتناظران في الخلوة، قال الشافعي، رضي الله عنه: كانت فيه جدة في بحثه، وأطلق للشافعي، رضي الله عنه، قريب من ألفي دينار وكثر ماله لسببها، ويقال: إنه فرقها، إلا أنه قال: لم أملك مالا قبلها أكثر منها، وقيل: بل أطلق له الرشيد خمسة آلاف دينار، والله أعلم، وقد أعطى من هذا المال للقرشيين أكثره، أو عامته.