ثم إنه أتى بعد أن فرغ من خطبته برقائق من الوعظ، وآيات بينات من الذكر، طارت لها القلوب اشتياقًا، وذابت بها الأنفس احتراقًا، إلى أن علا الضجيج، وتردد بشهقاته النشيج، وأعلن التائبون بالصياح، وتساقطوا عليه تساقط الفراش على المصباح، كل يلقي ناصيته بيده فيجزها، ويمسح على رأسه داعيًا له، ومنهم من يغشى عليه، فيرفع في الأذرع إليه، فشاهدنا هولًا يملأ الأنفس إنابة وندامة، ويذكر بأهوال يوم القيامة؛ فلو لم نركب ثبج البحر، ونعتسف مفازة القفر إلا لمشاهدة مجلس من مجالسه لكانت صفقة رابحة، والوجهة المفلجة الناجحة، والحمد لله على أن من بلقاء من تشهد الجمادات بفضله، ويضيق الوجود عن مثله، وفي أثناء مجلسه ذلك تبتدره المسائل، وتطير إليه الرقاع؛ فيجاوب أسرع من طرفة العين وربما كان أكثر مجلسه الرائق من نتائج تلك المسائل، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، لا إله سواه"1.
7- تصانيفه:
ثم رأى ابن الجوزي أن التصنيف في فن الوعظ يكمل مجالسه؛ بل يعمم نفعها، فالكتاب يبلغ ما لا يبلغه الخطاب، وهو باق وصاحبه موسد تحت التراب.
ويقول رحمه الله: رأيت من الرأي القويم أن نفع التصانيف أكثر من نفع التعليم بالمشافهة؛ لأني أشافه في عمري عددًا من المتعلمين، وأشافه بتصنيفي خلقًا لا يحصون ما خلقوا بعد، ودليل هذا أن انتفاع الناس بتصانيف المتقدمين أكثر من انتفاعهم بما يستفيدونه من مشايخهم؛ فينبغي للعالم أن يتوفر على التصانيف إن وفق للتصنيف المفيد ... "2.
لقد ابتدأ ابن الجوزي في التصنيف وله من العمر سبع عشرة سنة؛ فلا غرابة أن يكون من أكثر المصنفين في الإسلام، وقد تجاوز عدد مؤلفاته أربعمائة3 كتاب، أفراد لها الأستاذ عبد الحميد العلوجي كتابًا سماه مؤلفات ابن الجوزي كما أن الإمام الذهبي سرد أسماء الكثير منها في سيره "21/ 370" وأكتفى هنا بذكر أشهرها: "التبصرة" و "تلبيس إبليس" و "ذم الهوى" و "زاد المسير في علم التفسير" و "صفة