وأحوال الناس خاصتهم وعامتهم، وعندما استوت له أدواته -وهو بعد في مقتبل العمر- أقبل يعقد مجالس الوعظ، وكان أولها في جامع المنصور سنة "527هـ".
وبدأت مجالسه تستقطب الناس، فازدحم عليه أهل بغداد، ينهلون من علمه ووعظه وتذكيره خاصتهم وعامتهم، حتى صار علمًا من أعلام بغداد، ومفخرة تفاخر بها غيرها من المدن، فكان زوار بغداد يحرصون على حضور مجالسه التي لم يكن لها نظير في العالم الإسلامي.
وها هو الرحالة الأندلسي الشهير "محمد بن أحمد بن جبير" يحضر أحد هذه المجالس ويصفها في بيان رائع في رحلته المشهورة، فيقول: "ثم شاهدنا صبيحة يوم السبت بعده مجلس الشيخ الفقيه الإمام الأوحد، جمال الدين أبي الفضائل بن علي الجوزي بإزاء داره على الشط بالجانب الشرقي وفي آخره، على اتصال من قصور الخليفة، وبمقربة من باب البصلية آخر أبواب الجانب الشرقي، وهو يجلس به كل سبت، فشاهدنا مجلس رجل ليس من عمرو ولا زيد، وفي جوف الفرا كل الصيد، آية الزمان، وقرة عين الإيمان، رئيس الحنبلية، والمخصوص في العلوم بالرتب العلية، إمام الجماعة، وفارس حلبة هذه الصناعة، والمشهود له بالسبق الكريم في البلاغة والبراعة، مالك أزمة الكلام في النظم والنشر، والغائص في بحر فكره على نفائس الدر، فأما نظمه فـ "رضي" الطباع "مهياري" الانطباع، وأما نثره فيصدع بسحر البيان، ويعطل المثل بـ "قس" و "سحبان".
ومن أبهر آياته، وأكبر معجزاته: أنه يصعد المنبر، ويبتدئ القراء بالقراءة، وعددهم نيف على العشرين قارئًا، فينتزع الاثنان منهم أو الثلاثة آية من القراءة، يتملونها على نسق بتطريب وتشويق؛ فإذا فرغوا تلت طائفة أخرى على عددهم آية ثانية، ولا يزالون يتناوبون آيات من سور مختلفات إلى أن يتكاملوا قراءة، وقد أتوا بآيات متشابهات، لا يكاد المتقد الخاطر يحلها عدة، أو يسميها نسقًا، فإذا فرغوا أخذ هذا الإمام الغريب الشأن في إيراد خطبته عجلًا مبتدرًا، وأفرغ في أصداف الأسماع من ألفاظه دررًا، وانتظم أوائل الآيات المقروءات في أثناء خطبته فقرًا، وأتى بها على نسق القراءة لها لا مقدمًا ولا مؤخرًا، ثم أكمل الخطبة على قافية آخر آية منها، فلو أن أبرع من في المجلس تكلف تسمية ما قرأ القراء آية آية على الترتيب لعجز عن ذلك، فكيف بمن ينتظمها مرتجلًا، ويورد الخطبة الغراء بها عجلًا: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور: 15] ، {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [النمل: 16] ، فحدث عن البحر ولا حرج وهيهات، ليس الخبر عنه كالخُبَر.