صيد الخاطر (صفحة 13)

في الطلب، فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم، وقدر همهم، وحفظهم، وعباداتهم، وغرائب علومهم، ما لا يعرفه من لم يطالع، فصرت أستزري ما الناس فيه، وأحتقر همم الطلاب ولله الحمد.

ومن جملة ما قرأ أجزاء كثيرة من "كتاب الفنون" لابن عقيل، وهو كتاب كبير جدًّا، فيه فوائد كثيرة جليلة، في الوعظ، والتفسير، والفقه، والأصلين والنحو واللغة والشعر، والتاريخ والحكايات، وفيه مناظراته ومجالسه التي وقعت له، وخواطره ونتائج فكره قيدها فيه، فاستفاد منه فوائد جمة، ولعله هو الذي نبهه إلى تقييد خواطره، فكان منها كتابه "صيد الخاطر"، وفي الجملة ترك كتاب الفنون آثارًا بارزة في علم ومصنفات ابن الجوزي، قال رحمه الله عن كتاب الفنون: "وهذا الكتاب مئتا مجلد، وقع لي منه نحو مئة وخمسين مجلدًا" وقال سبطه في "مرآة الزمان": "واختصر منه جدي عشر مجلدات فرقها في تصانيفه".

لقد كان حرصه على أوقات عمره شديدًا، فلا يضيع وقته من غير فائدة، حتى السويعات التي يضطر فيها لاستقبال زائريه، كان يشغلها بأمور تتعلق بعلومه، يقول في صيد الخاطر الفصل "164": "ثم أعددت أعمالًا لا تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم، لئلا يمضي الزمان فارغًا، فجعلت من الاستعداد للقائهم قطع الكاغد1 وبري الأقلام، وحزم الدفاتر؛ فإن هذه الأشياء لا بد منها، ولا تحتاج إلى فكر، وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم، لئلا يضيع شيء من وقتي".

ثم حبب إليه في بداية الطلب طريق الزهاد، فاستمع إليه يصف حاله قائلًا: "كنت في بداية الصبوة قد ألهمت سلوك طريق الزهاد بإدامة الصوم والصلاة، وحببت إلي الخلوة فكنت أجد قلبًا طيبًا، وكانت عين بصيرتي قوية الحدة، تتأسف على لحظة تمضي في غير طاعة، وتبادر الوقت في اغتنام الطاعات، ولي نوع أنس وحلاوة مناجاة".

6- تصدره للوعظ والإرشاد:

إلا أن الفن الذي أحبه ابن الجوزي هو الوعظ والإرشاد، فأعد له العدة من علوم الشريعة واللغة والأدب والتاريخ، فحفظ الكثير من الأحاديث والرقائق والأخبار والحكايات والأشعار، مع إحاطة تامة بأحوال عصره وشؤون مجتمعه،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015