وقد يكون الخصمان على مقالتين مختلفتين. كلتاهما باطلة، ويكون الحق في ثالثة غيرهما، فمناقضة أحدهما صاحبه، غير مصحح مذهب، وإن كان مفسدًا به قول خصمه، لأنهما مجتمعان معًا في الخطأ مشتركان فيه كقول الشاعر فيهم:
حجج تهافت كالزجاج تخالها *** حقًا وكل كاسر مكسور
وإنما كان الأمر كذلك، لأن واحدًا من الفريقين لا يعتمد في مقالته التي ينصرها أصلا صحيحا وإنما هو أوضاع وآراء تتكافأ وتتقابل. فيكثر المقال ويدوم الاختلاف، ويقل الصواب. قال الله تعالى {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا}. فأخبر سبحانه أن ما كثر فيه الاختلاف فإنه ليس من عنده. وهذا من أدل الدليل على أن مذاهب المتكلمين فاسدة، لكثرة ما يوجد فيها من الاختلاف المفضي بهم إلى التكفير والتضليل، وذلك صفة الباطل الذي أخبر الله سبحانه عنه.
ثم قال في صفة الحق: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق} فإن قيل: إن دلائل النبوة ومعجزات النبي- صلى الله عليه وسلم- ما عدا القرآن إنما نقلت إلينا من طريق الآحاد دون التواتر، والحجة لا تقوم بنقل الآحاد على من كان في الزمان المتأخر لجواز وقوع الغلط فيها واعتراض الآفات من الكذب وغيره عليها.
قيل: هذه الأخبار، وإن كان شروط التواتر في آحادها معدومة، فإن جملتها راجعة من طريق المعنى إلى التواتر، ومتعلقة به حينا لأن بعضها يوافق بعضًا ويجانسه، إذ كل ذلك واقع تحت الإعجاز، والأمر المزعج للخواطر،