وإذا كان الأمر على ما قلناه وقد علمنا يقينًا أن النبي- صلى الله عليه وسلم- لم يدعهم في أمر التوحيد إلى الاستدلال بالأعراض، وتعلقها بالجواهر، وانقلابها فيها، إذ لا يمكن أحدًا من الناس أن يروي في ذلك عنه، ولا عن أصحابه من هذا النمط حرفًا واحدًا فما فوقه، لا من طريق تواتر ولا آحاد، علم أنهم قد ذهبوا خلاف مذهب هؤلاء وسلكوا غير طريقتهم.
ولو كان في الصحابة قوم يذهبون مذاهب هؤلاء في الكلام والجدال، لعدوا في جملة المتكلمين ولنقل إلينا أسماء متكلميهم، كما نقل أسماء فقهائهم وقرائهم وزهادهم، فلما لم يظهر ذلك، دل على أنه لم يكن لهذا الكلام عندهم أصل، وإنما ثبت عندهم أمر التوحيد من وجوه:
أحدها ثبوت النبوة بالمعجزات التي أوردها نبيهم من كتاب قد أعياهم أمره وأعجزهم شأنه، وقد تحداهم به، وبسورة من مثله، وهم العرب الفصحاء والخطباء والبلغاء، فكل عجز عنه، ولم يقدر على شيء منه بوجه إما بأن لا يكون من قواهم ولا من طباعهم أن يتكلموا بكلام يضارع القرآن في جزالة لفظه وبديع نظمه، وحسن معانيه.
وإما أن يكون ذلك في وسعهم وتحت قدرتهم طبعًا وتركيبًا، ولكن منعوه وصرفوا عنه ليكون آية لنبوته، وحجة عليهم في وجوب تصديقه.
وإما أن يكون إنما عجزوا عن علم ما جمع في القرآن من أنباء ما كان، والإخبار عن الحوادث التي تحدث وتكون. وعلى الوجوه كلها فالعجز موجود، والانقطاع حاصل هذا إلى ما شاهدوه من آياته وسائر معجزاته المشهورة عنه الخارجة عن رسوم الطباع الناقضة للعادات كتسبيح الحصى في كفه، وحنين الجزع لمفارقته، وزحف الجبل تحته، وسكوته لما ضربه