الأفضل قال القاضي ابن شداد: وطال جلوسنا عنده وأخذ يشكو من قلقه بالليل وطاب له الحديث إلى قريب الظهر، ثم انصرفنا والقلوب عنده، فتقدم إلينا بالحضور على الطَّعام في خدمة ولده الأفضل ولم يكن للقاضي عادة بذلك، فانصرف ودخلت إلى الأبواب القِبْلى، وقد مُدَّ الطعام وولده الأفضل قد جلس في موضعه فانصرفت، وما كان لي قوة للجلوس استيحاشا وبكى في ذلك اليوم جماعة تفاؤلا بجلوس ولده في موضعه ثم أخذ المرض في تزايد من حينئذ ونحن نلازم التردُّد في طَرَفي النَّهار، وأدخل إليه وأنا والقاضي الفاضل في النَّهار مراراً، ويُعطى الطريق في بعض الأيام التي يجد فيها خِفَّة وكان مرضه في رأسه وكان من أمارات انتهاء العمر غيبة طبيبه الذي كان قد ألف مِزاجه سفرِاً وحَضَراً ورأى الأطباء فَصْدَه ففصدوه في الرّابع، فاشتَّد مرضه، وقَلَّت رطوبات بدنه وكان يغلبه النَّفَس غلبة عظيمة، ولم يَزَل المرض في تزايد حتى انتهى إلى غاية الضعف ولقد أجلسناه في السادس من مرضه وأسندنا ظهره إلى مخَّدة وأُحضر ماء فاتر يشربه عقيب شراب يُلَيَّن الطبع، فشربه فوجده شديد الحرارة، فشكا من شِدَّة حرَّه فغيرَّ وعُرض عليه ثانياً، فشكا من برده ولم يغضب ولم يصخب رحمه الله، ولم يقل سوى هذه الكلمات: سبحان الله لا يمكن أحداً تعديل الماء.

فخرجت أنا والقاضي من عنده، وقد اشتدَّ منّا البكاء والقاضي الفاضل يقول لي: أبصر هذه الأخلاق التي قد أشرف المسلمون على مفارقتها، والله لو أنَّ هذا بعض النَّاس كان قد ضرب القدح رأس من أحضره واشتد مرضه في السادس والسابع والثامن، ولم يزل متزايداً وتغيّب ذهنه ولما كان التاسع حدثت به رعشة وامتنع من تناول المشروب، واشتد الإرجاف في البلد وخاف الناس، ونقلوا الأقمشة من الأسواق، وغشي الناس من الكآبة والحزن ما لايمكن حكايته ولقد كنت أنا والقاضي الفاضل نقعد كل ليلة إلى أن يمضي من الليل ثُلثُهُ، أو قريب منه ثم نحضر من باب الدار، فإن وجدنا طريقاً دخلنا وشاهدناه وانصرفنا، وإلا تعَّرفنا أحواله وانصرفنا وكُنَّا نجد الناس يرتقبون خروجنا من بيوتنا حتى يقرؤوا أحواله من صفحات وجوهنا (?) ولما كان العاشر من مرضه حُقن دفعتين وحصل من الحقُنة راحة وحصل بعض الخفّ، وتناول من ماء الشعير مقداراً صالحاً، وفرح الناس فرحاً شديداً فأقمنا على العادة إلى أن مضى من الليل هزيع، ثم أتينا باب الدّار فوجدنا جمال الدولة إقبالاً، فالتمسنا منه تعريف الحال المتجّددة، فدخل ثم أنفذ إلينا مع الملك المعظمّ تورانشاه يقول: إن العَرَق قد أخذ في ساقيه فشكرنا الله تعالى على ذلك والتمسنا منه أن يمس بقية بدنه ويخبرنا بحاله في العرق، فافتقده ثم خرج إلينا، وذكر أن العَرقَ سابغ، فشكرنا الله تعالى على ذلك، وانصرفنا طيَّبة قلوبنا ثم أصبحنا في الحادي عشر من

طور بواسطة نورين ميديا © 2015