"ولكنني لا أجد أي مبرر لافتراض أن الكون يهتم بآمالنا ورغباتنا، فليس لنا أي حق في أن نطلب من الكون تكييف نفسه وفقاً لعواطفنا وآمالنا".
وحين نمنع النظر في الواقع والحقيقة نجد أن الملحدين هم الذين يريدون أن يكيفوا الكون وفق رغباتهم وأهوائهم، وذلك لأن الإيمان بالدار الآخرة والحياة الآخرة إيمان بمحكمة العدل الرباني، وما تستتبع من جزاء، وفي هذه المحكمة العظمى يحاكم الناس ويحاسبون على أعمالهم، والرغبات الإنسانية لو تركت وشأنها لحلا لها أن تتلخص من قانون الجزاء، حتى تنطلق في تلبية مطالب أهوائها وشهواتها دون أن تقف في طريقها حدود ولا ضوابط، فقضية الإنكار هي القضية التي تحاول إخضاع الواقع الكوني للأهواء والعواطف والرغبات، لا قضية الإيمان باليوم الآخر والحياة الآخرة، وقد كشف القرآن هذه الحقيقة من حقائق نفوس المنكرين، فقال الله تعالى في سورة (القيامة/75 مصحف/31 نزول) :
{بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} .
وبهذا التحليل يتبين لنا أن الأمر على عكس ما ادعاه (رسل) ، إذ إن عقيدة الدار الآخرة عقيدة قائمة على مفهوم الجزاء والعدل، والإنسان ميال بأهوائه وعواطفه إلى أن يصرف عن تصوره قانون العدل الإلهي وما يتصل به، لينطلق في الحياة الدنيا انطلاقاً فاجراً، دون أن تقف في طريقه تصورات قانون العدل، لكن الله غير مستعد لأن يغير من سننه وأحكامه ومقاديره القائمة على أسس من علمه وحكمته وعدله ورحمته وفضله، تلبية لأهواء وشهوات الجانحين الفاجرين.
فما حاول أن يستند إليه (رسل) هو في الحقيقة دليل ضده، وليس دليلاً له، هذا إذا قبلنا بالمنهج الذي سلكه في الاستدلال.
على أن مناقشتنا لمنكري الآخرة تغدو عقيمةً ما داموا مصرين على جحود الخالق، واعتبار أن هذا الكون كله مظهراً لأصل مادي صرف، ونتيجة لحركات عشوائية قامت بها ذرات هذا الأصل المادي، جلُّ ما نستطيع أن نناظرهم به هو إمكان العودة إلى الحياة لا لإثباتها جزماً، وإفساد مذهبهم المادي من أساسه، بإثبات عالم آخر غير هذا العالم المادي الخاضع للتجربة الحسية، والقياس بالأجهزة.