فيها قديما وحديثا وتباينت طرقهم في الجواب عنها فالجاحدون للفاعل المختار الذي يفعل بمشيئته وقدرته يحيلون ذلك على الطبيعة المجردة وأن ذلك من لوازمها ومقتضياتها ليس بفعل فاعل ولا قدرة قادر ولا إرادة مريد ومنكرو الحكمة والتعليل يردون ذلك إلى محض المشيئة وصرف الإرادة تخصص مثلا على مثل بلا موجب ولا غاية ولا حكمة مطلوبة ولا سبب أصلا وظنوا أنهم بذلك يتخلصون من السؤال ويسدون على نفوسهم باب المطالبة وإنما سدوا على نفوسهم باب معرفة الرب وكماله وكمال أسمائه وأوصافه وأفعاله فعطلوا حكمته وحقيقة ألهيته وحمده وكانوا كالمستجيرين من الرمضاء بالنار وأما من أثبت حكمة وتعليلا لا يعودا إلى الخالق بل إلى المخلوق سلكوا طريقة التعويض على تلك الآلام في حق من يبعث للثواب والعقاب وقالوا قد يكون في ذلك إثابة لإثابتهم بصبرهم وتألمهم وإثابة لهم وتعويضا في القيامة بما نالهم من تلك الآلام فلما أورد عليهم إيلام الحيوانات التي لا تثاب ولا تعاقب وأما المثبتون لحقائق أسماء الرب وصفاته وحكمته التي هي وصفه ولأجلها تسمى بالحكيم وعنها صدر خلقه وأمره فهم أعلم الفرق بهذا الشأن ومسلكهم فيه أصح المسالك وأسلم من التناقض والاضطراب فإنهم جمعوا بين إثبات القدرة والمشيئة العامة والحكمة الشاملة التي هي غاية الفعل وربطوا ذلك بالأسماء والصفات فتصادق عندهم السمع والعقل والشرع والفطرة وعلموا أن ذلك مقتضى الحكمة البالغة وأنه من لوازمها وأن لازم الحق حق ولازم العدل عدل ولوازم الحكمة من الحكمة فاعلم أن هاهنا أمرين نفسا متحركة بالإرادة والاختيار وطبيعة متحركة بغير الاختيار والإرادة وأن الشر منشأه من هذين المتحركين وعن هاتين الحركتين وخلقت هذه النفس وهذه الطبيعة على هذا الوجه فهذه تتحرك لكمالها وهذه تتحرك لكمالها وينشأ عن الحركتين خير وشر كما ينشأ عن حركة الأفلاك والشمس والقمر وحركة الرياح والماء والنار خير وشر فالخيرات الناشئة عن هذه الحركات مقصودة بالقصد الأول إما لذاتها وإما لكونها وسيلة إلى خيرات أتم منها والشرور الناشئة عنها غير مقصودة بالذات وإن قصدت قصد الوسائل واللوازم التي لا بد مها فما جبلت عليه النفس من الحركة هو من لوازم ذاتها فلا تكون النفس البشرية نفسا إلا بهذا اللازم فإذا قيل لم خلقت متحركة على الدوام فهو بمنزلة أن يقال لم كانت النفس نفسا ولم كانت النار نارا والريح ريحا فلو لم يخلق هذا ما كانت نفسا ولو لم تخلق الطبيعة هكذا ما كانت طبيعة ولو لم يخلق الإنسان على هذه الصفة والخلقة ما كان إنسانا فإن قيل فلم خلقت النفس على هذه الصفة قيل من كمال الوجود خلقها على هذه الصفة كما تقدم وكذلك كمال فاطرها ومبدعها اقتضى خلقها على هذه الصفة لما في ذلك من الحكم التي لا يحصيها إلا مبدعها سبحانه وإن كان في إيجاد هذه النفس شرا فهو شر جزئي بالنسبة إلى الخير الكلي الذي هو سبب إيجادها فوجودها خير من أن لا توجد فلو لم يخلق مثل هذه النفس لكان في الوجود نقص وفوات حكم ومصالح عظيمة موقوفة على خلق مثل هذه النفس ولهذا لما اعترضت الملائكة على خلق الإنسان وقالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء} أجابهم سبحانه بأن في خلقه من الحكم والمصالح ما لا تعلمه الملائكة والخالق سبحانه يعلمه وإذا كانت الملائكة لا تعلم ما في خلق هذا الإنسان الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء من الحكم والمصالح فغيرهم أولى أن لا يحيط به علما فخلق هذا الإنسان من تمام الحكمة والرحمة والمصلحة وإن كان وجوده مستلزما لشر فهو شر