ليبلونا أينا أحسن عملا وأخبر أنه زين الأرض بما عليها من حيوان ونبات ومعادن وغيرها لهذا الابتلاء وأنه خلق الموت والحياة لهذا الابتلاء فكان هذا الابتلاء غاية الخلق والأمر فلم يكن من بد من دار يقع فيها هذا الابتلاء وهي دار التكليف ولما سبق في حكمته أن الجنة دار نعيم لا دار ابتلاء وامتحان جعل قبلها دار الابتلاء جسرا يعبر عليه إليها ومزرعة يبذر فيها وميناء يزود منها وهذا هو الحق الذي خلق الخلق به ولأجله وهو أن يعبد وحده بما أمر به على ألسنة رسله فأمر ونهى على السنة ووعدنا بالثواب والعقاب ولم يخلق خلقه سدى لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يتركهم هملا لا يثيبهم ولا يعاقبهم بل خلقوا للأمر والنهي والثواب والعقاب ولا يليق بحكمته وحمده غير ذلك.
فصل: وقد عرف من هذا الجواب عن قولهم أي حكمة في خلق النفس مريدة للخير والشر وهلا خلقت مريدة للخير وحده وكيف اقتضت الحكمة تمكينها من الشر مع القدرة على منعها منه وأي حكمة في إعطائها قوة وأسبابا يعلم المعطي أنها لا يفعل بها إلا الشر وحده وأي حكمة في إقرار هذه النفوس على غيها وظلمها وعدوانها ومعلوم أن يفعل لحكمة لا يفعل ذلك وأن من يفعل لحكمة إذا رأى عبيده يقتل بعضهم بعضا ويفسد بعضهم بعضا ويظلم بعضهم بعضا وهو قادر على منعهم فلا بدعة حكمته وهما لهم بحيث يتركهم كذلك فإما أن يكون عالما يما يأتون أو لا يكون قادرا على منعهم أو لا يكون ممن يفعل لغرض وحكمة والأولان مستحيلان في حق الرب تعالى فتعين الثالث ومبنى هذه الشبهة على أصل فاسد وهو قياس الرب على خلقه وتشبيههم في أفعاله بحيث يحسن منه ما يحصن منهم ويقبح منه ما يقبح منهم ولهذا كانت القدرية مشبهة الأفعال ومتأخروهم جمعوا بين هذا التشبيه وبين تعطيل الصفات فصاروا معطلين للصفات مشبهين في الأفعال وهذا الأصل الفاسد مما رده عليهم سائر العقلاء وقالوا قياس أفعال الرب على أفعال العباد من أفسد القياس وكذلك قياس حكمته على حكمتهم وصفاته على صفاتهم ومن المعلوم أن الرب تعالى علم أن عباده يقع منهم الكفر والظلم والفسوق وكان قادرا على أن لا يوجدهم وأن يوجدهم كلهم أمة واحدة على ما يحب ويرضى وأن يحول بينهم وبين بغي بعضهم ولكن حكمته البالغة أبت ذلك واقتضت إيجادهم على الوجه الذي هم عليه وهو سبحانه خلق النفوس أصنافا فصنف مريدا للخير وحده وهي نفوس الملائكة وصنف مريدا للشر وحده وهي نفوس الشياطين وصنف فيه إرادة النوعين وهي النفوس البشرية فالأولى الخير لهم طباع وهي محمودة عليه والشر للنفوس الثانية طباع وهي مذمومة عليه والصنف الثالث بحسب الغالب عليه من الوصفين فمن غلب عليه وصف الخير التحق بالصنف الأول ومن غلب عليه وصف الشر التحق بالصنف الثالث فإذا اقتضت الحكمة وجود هذا الصنف الثالث فإن يقتضي وجود الثاني أولى وأحرى والرب تعالى اقتضت قدرته وعزته وحكمته إيجاد المتقابلات في الذوات والصفات والأفعال كما تقدم وقد نوع خلقه تنويعا دالا على كمال قدرته وربوبيته فمن أعظم الجهل والضلال أن يقول القائل هلا كان خلقه كلهم نوعا واحدا فيكون العالم علوا كله أو نورا كله أو الحيوان ملكا كله وقد يقع في الأوهام الفاسدة أن هذا كان أولى وأكمل ويعرض الوهم الفاسد ما ليس ممكنا كمالا، الوجه السادس والثلاثون قوله وأي حكمة في إيلام الحيوانات غير المكلفة فهذه مسألة تكلم الناس