مغمور بما في إيجاده من الخير كإنزال المطر والثلج وهبوب الرياح وطلوع الشمس وخلق الحيوان والنبات والجبال والبحار وهذا كما أنه في خلقه فهو في شرعه ودينه وأمره فإن ما أمر به من الأعمال الصالحة خيره ومصلحته راجح وإن كان فيه شر فهو مغمور جدا بالنسبة إلى خيره وما نهى عنه من الأعمال والأقوال القبيحة فشره ومفسدته راجح والخير الذي فيه مغمور جدا بالنسبة إلى شره فسنته سبحانه في خلقه وأمره فعل الخير الخالص والراجح والأمر بالخير الخالص والراجح فإذا تناقضت أسباب الخير والشر والجمع بين النقيضين محال قدم أسباب الخير الراجحة على المرجوحة ولم يكن تفويت المرجوحة شرا ودفع أسباب الشر الراجحة بالأسباب المرجوحة ولم يكن حصول المرجوحة شرا بالنسبة إلى ما اندفع بها من الشر الراجح وكذلك سنته في شرعه وأمره فهو يقدم الخير الراجح وإن كان في ضمنه شر مرجوح ويعطل الشر الراجح وإن فات بتعطيله خير مرجوح هذه سنته فيما يحدثه ويبدعه في سماواته وأرضه وما يأمر به وينهى عنه وكذلك سنته في الآخرة وهو سبحانه قد أحسن كل شيء خلقه وقد أتقن كل ما صنع وهذا أمر يعلمه العالمون بالله جملة ويتفاوتون في العلم بتفاصيله وإذا عرف ذلك فالآلام والمشاق إما إحسان ورحمة وإما عدل وحكمة وإما إصلاح وتهيئة لخير يحصل بعدها وإما لدفع ألم هو أصعب منها وإما لتولدها عن لذات ونعم يولدها عنها أمر لازم لتلك اللذات وإما أن يكون من لوازم العدل أو لوازم الفضل والإحسان فيكون من لوازم الخير التي إن عطلت ملزوماتها فات بتعطيلها خير أعظم من مفسدة تلك الآلام والشرع والقدر أعدلا شاهد بذلك فكم في طلوع الشمس من ألم لمسافر وحاضر وكم في نزول الغيث والثلوج من أذى كما سماه الله بقوله: {إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ} وكم في هذا الحر والبرد والرياح من أذى موجب لأنواع من الآلام لصنوف من الحيوانات وأعظم لذات الدنيا لذة الأكل والشرب والنكاح واللباس والرياسة ومعظم آلام أهل الأرض أو كلها ناشئة عنها ومتولدة منها بل الكمالات الإنسانية لا تنال إلا بالآلام والمشاق كالعلم والشجاعة والزهد والعفة والحلم والمروءة والصبر والإحسان كما قال:
لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يفقر والأقدام قتال
وإذا كانت الآلام أسبابا للذات أعظم منها وأدوم منها كان العقل يقضي باحتمالها وكثيرا ما تكون الآلام أسبابا لصحة لولا تلك الآلام لفاتت وهذا شأن أكبر أمراض الأبدان فهذه الحمى فيها من المنافع للأبدان مالا يعلمه إلا الله وفيها من إذابة الفضلات وإنضاج المواد الفجة وإخراجها ما لا يصل إليه دواء غيرها وكثير من الأمراض إذا عرض لصاحبها الحمى استبشر بها الطبيب وأما انتفاع القلب والروح بالآلام والأمراض فأمر لا يحس به إلا من فيه حياة فصحة القلوب والأرواح موقوفة على آلام الأبدان ومشاقها وقد أحصيت فوائد الأمراض فزادت على مائة فائدة وقد حجب الله سبحانه أعظم اللذات بأنواع المكاره وجعلها جسرا موصلا إليها كما حجب أعظم الآلام بالشهوات واللذات وجعلها جسرا موصلا إليها ولهذا قالت العقلاء قاطبة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم وأن الراحة لا تنال بالراحة وأن من آثر اللذات فاتته اللذات فهذه الآلام والأمراض والمشاق من أعظم النعم إذ هي أسباب النعم وما تنال الحيوانات غير المكلفة منها فمغمور جدا بالنسبة إلى مصالحها ومنافعها كما ينالها من حر