إنارة القمر والكواكب في ظلمة الليل فإنه مع الحاجة إلى الليل وظلمته لهدوء الحيوان وبرد الهواء عليه وعلى النبات لم يجعل ظلاما محضا لا ضياء فيه فلا يمكن فيه سفر ولا عمل وربما احتاج الناس إلى العمل بالليل لضيق الوقت عليهم في النهار ولشدة الحر فيتمكنون في ضوء القمر من أعمال كثيرة وجعل نوره باردا ليقاوم حرارة نور الشمس فبرد سمومه فيعتدل الأمر ويكسر كيفية كل منهما كيفية الآخر ويزيل ضررها وكذلك الحكمة في خلق النجوم فإن فيها من الهداية في البر والبحر والاستدلال على الأوقات وزينة السماء وغير ذلك ما لم يكن حاصلا بمجرد الاتفاق كما يقوله نفاة الحكمة واقتضت هذه الحكمة أن جعلت نوعين نوعا منها يظهر وقتا ويحتجب آخر ونوعا آخر لا يزال ظاهرا غير محتجب بل جعل ظاهرا بمنزلة الإعلام التي يهتدي بها الناس في الطرقات المجهولة وهم ينظرون إليها متى أرادوا ويهتدون بها إلى حيث شاؤا وجعلت الحكمة في النوع الأول الاستدلال بظهوره على أمور تعاديه متى طلع في وقت يعني دل على تلك الأمور فقامت المصلحة والحكمة بالنوعين مع ما في خلقها من حكم أخرى ومصالح لا يهتدي إليها العباد فما خلق الله شيئا سدى وقد نظم الله سبحانه الحوادث الأرضية بالأزواج والأجرام العلوية أكمل نظام يعجز عقول البشر عن الإحاطة ببعضه وقد استفرغت الأمم السابقة قوى أذهانها في إدراك ذلك فلم يصل منه إلا إلى مالا نسبة له إلى ما خفي عليها بوجه ما وقد جعل الخلاق العليم سبحانه النجوم فرقتين فرقة منها لازمة مراكزها من الفلك ولا تسير إلا بسيره وفرقة أخرى مطلقة تنتقل في البروج وتسير بأنفسها غير سير فلكها فلكل منها مسيران مختلفان أحدهما عام مع الفلك نحو المغرب والآخر خاص لنفسه نحو المشرق وقد شبه هذا النوع بنملة تدب على رحا والرحا تدور ذات اليمين والنملة تدور ذات الشمال فللنملة في تلك الحال حركتان مختلفتان أحداهما حركة بنفسها تتوجه أمامها والأخرى بغيرها هي مقهورة عليها تبعا للرحى تجذبها إلى خلفها فلهذا النوع من النجوم حركتان مختلفتان على وزن وتقدير لا يعدوه فزعم نفاة الحكمة أن ذلك أمر اتفاقي لا لحكمة ولا لغرض مقصود فإن قلت فما الغرض المقصود بذلك وأي حكمة فيه قيل استدل بما عرفت من الحكمة على ما خفي عنك منها ولا تجعل ما خفي عليك دليلا على بطلانها مع أن من بعض الحكم في ذلك أنها لو كانت كلها راتبة لبطلت الدلالات التي تكون من تنقل المتنقل منها ومسيرها في كل واحد من البروج كما يستدل على أمور كثيرة وحوادث جمة بتنقل الشمس والقمر والسيارات في منازلها ولو كانت كلها متنقلة لم يكن لمسيرها منازل تعرف ولا رسم يقاس عليه فإنه إنما يقاس مسير المنتقلة منها بتنقلها في البروج الراتبة كما يقاس سير السائر على الأرض بالمنازل التي يقطعها وبالجملة فلو كانت كلها بحال واحدة لبطل النظام الذي اقتضته الحكمة التي جعلها هكذا فذلك تقدير العزيز العليم وصنع الرب الحكيم وكيف يرتاب ذو بصيرة أن ذلك كله تقدير مقدر حكيم أتقن ما صنعه وأحكم ما دبره ويعرف بما فيه من الحكم والمصالح والمنافع إلى خلقه فشدت العقول والفطر بأنه ذو الحكمة الباهرة والقدرة القاهرة والعلم التام المحيط وأنه لم يخلق ذلك باطلا ولا من الحكمة عاطلا وكذلك الحكمة في تعاقب الحر والبرد على التدريج على أبدان الحيوان والنبات فإن قيامهما وكمالهما لما كان بذلك اقتضت الحكمة الإلهية أن لا يدخل أحدهما على الآخر وهلة فلا يتحمله بل بالتدريج قليلا قليلا إلى أن ينتهي منتهاه ويحصل المقصود به من غير ضرر يعم وهذا كله بأسباب هي