منشأ الحكم والمصالح فلا يبطل السبب بإثبات الحكمة ولا الحكمة بالسبب ولا السبب والحكمة بالمشيئة فيكون من الذين يبخس حظهم من العقل والسمع وكذلك الحكمة في خلق النار على ما هي عليه كامنة في حاملها فإنها لو كانت ظاهرة كالهواء والماء والتراب لأحرقت العالم وما فيه ولم يكن بد من ظهورها في الأحايين للحاجة إليها فجعلت مخزونة في الأجسام توري عند الحاجة إليها فتمسك بالمادة والحطب ما احتيج إلى بقائها ثم تخبوا إذ استغنى عنها فجعلت على خلقه وتقدير وتدبير حصل به الاستمتاع بها والانتفاع مع السلامة من ضررها ثم في النار خلة أخرى وهي أنها مما خص به الإنسان دون سائر الحيوان فإن الحيوانات لا تستعمل النار ولا تستمتع بها ولما اقتضت الحكمة الباهرة ذلك اغتنت الحيوانات عنها في لباسها وأقواتها فأعطيت من الشعور والأوبار ما يغنيها عنها وجعلت أغذيتها بالمفردات التي لا تحتاج إلى طبخ وخبز ولما كانت الحاجة إليها شديدة جعل من الآلات والأسباب ما يتمكن به من إثارتها إذا شاء ومن إبطالها ومن حكمها هذه المصابيح التي يوقدها الناس فيتمكنون بها من كثير حاجاتهم ولولاها لكان نصف أعمارهم بمنزلة أصحاب القبور وأما منافعها في إنضاج الأغذية والأدوية والدفء فلا يخفى وقد نبه تعالى على ذلك بقوله: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ} أي تذكر بنار الآخرة فيحترز منها ويستمتع بها المقوون وهم النازلون بالفيفاء وهي الأرض الخالية وخص هؤلاء بالذكر لشدة حاجتهم إليها في خبزهم وطبخهم حيث لا يجدون ما يشترونه فيغنيهم عن ما يصنعونه بالنار وكذلك الحكمة في خلق النسيم وما فيه من المصالح والعبر فإنه حياة هذه الأبدان وقوامها من خارج ومن داخل وفيه طرد هذه الأصوات فيؤديها إلى السامع وهو الحامل لهذه الأراييح يؤديها إلى المسام وينقلها من موضع إلى موضع وهو الذي يزجي السحاب ويسوقه من مكان إلى مكان على ظهره كالروايا على ظهور الإبل وهو الذي يسير السحاب أولا فيكون كسفا متفرقة فيؤلف بينه ثانيا فيصير طبقا واحدا ثم يلقحه ثالثا كما يلقح الفحل الأنثى فيحمل الماء كما تحمل الأنثى من لقاح الفحل ثم يسوقه رابعا إلى أحوج الأماكن والحيوان إليه ثم يعصره خامسا حتى لا يخرج ماؤه ثم يذروا ماءه بعد عصره سادسا حتى لا يسقط جملة فيهلك ما يقع عليه ثم يربي النبات سابعا فيكون له بمنزلة الماء والغذاء يجففه بحرارته ثامنا لئلا يعفن ولا يمكن بقاؤه ولهذا اقتضت الحكمة الباهرة أن تكون الرياح مختلفة المهاب والصفات والطبائع فزعم نفاة الحكمة أن هذا كله أمر اتفاقي لا سبب ولا غاية وهذا لو تتبعناه لجاء عدة أسفار بل لو تتبعنا خلقة الإنسان وحده وما فيها من الحكم والغايات لعجزنا نحن وأهل الأرض عن الإحاطة بتفصيل ذلك فلنرجع إلى جواب نفاة الحكمة والتعليل فنقول، في الوجه الرابع والعشرين قولهم أي حكمة في خلق إبليس وجنوده ففي ذلك من الحكم مالا يحيط بتفصيله إلا الله فمنها أن يكمل لأنبيائه وأوليائه مراتب العبودية بمجاهدة عدو الله وحزبه ومخالفته ومراغمته في الله وإغاظته وإغاظة أوليائه والاستعاذة به منه والإلجاء إليه أن يعيذهم من شره وكيده فيترتب لهم على ذلك من المصالح الدنيوية والأخروية ما لم يحصل بدونه وقدمنا أن الموقوف على الشيء لا يحصل بدونه ومنها خوف الملائكة والمؤمنين من ذنبهم بعد ما شاهدوا من حال إبليس ما شاهدوه وسقوطه من المرتبة الملكية إلى المنزلة الإبليسية يكون أقوى وأتم ولا ريب أن الملائكة لما شاهدوا ذلك حصلت لهم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015