ويحفظه بصلابته وفي المسند وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: "القلوب آنية الله في أرضه فأحبها إليه أصلبها وأرقها وأصفاها" وقد ذكر سبحانه أنواع القلوب في قوله: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُم} فذكر القلب المريض وهو الضعيف المنحل الذي لا تثبت فيه صورة الحق والقلب القاسي اليابس الذي لا يقبلها ولا تنطبع فيه فهذان القلبان شقيان معذبان ثم ذكر القلب المخبت المطمئن إليه وهو الذي ينتفع بالقرآن ويزكو به قال الكلبي: "فتخبت له قلوبهم فترق للقرآن قلوبهم" وقد بين سبحانه حقيقة الإخبات ووصف المخبتين في قوله: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} فذكر للمخبتين أربع علامات وجل قلوبهم عند ذكره والوجل خوف مقرون بهيبة ومحبة وصبرهم على أقداره وإتيانهم بالصلاة قائمة الأركان ظاهرا وباطنا وإحسانهم إلى عباده بالإنفاق مما آتاهم وهذا إنما يتأتى للقلب المخبت قال ابن عباس: "المخبتين المتواضعين" وقال مجاهد: "المطمئنين إلى الله" وقال الأخفش: "الخاشعين" وقال ابن جرير: "الخاضعين" قال الزجاج: "اشتقاقه من الخبت وهو المنخفض من الأرض وكل مخبت متواضع فالإخبات سكون الجوارح على وجه التواضع والخشوع لله"، فإن قيل كان معناه التواضع والخشوع فكيف عدى بالي في قوله: {وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِم} قيل ضمن معنى أنابوا واطمأنوا وتابوا وهذه عبارات السلف في هذا الموضع والمقصود أن القلب المخبت ضد القاسي والمريض وهو سبحانه الذي جعل بعض القلوب مخبتا إليه وبعضها قاسيا وجعل للقسوة آثارا وللإخبات آثارا فمن آثاره القسوة تحريف الكلم عن مواضعه وذلك من سوء الفهم وسوء القصد وكلاهما ناشئ عن قسوة القلب ومنها نسيان ما ذكر به وهو ترك ما أمر به علما وعملا ومن آثار الإخبات وجل القلوب لذكره سبحانه والصبر على أقداره والإخلاص في عبوديته والإحسان إلى خلقه.
فصل: وأما تضييق الصدر وجعله حرجا لا يقبل الإيمان فقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} والحرج هو الشديد الضيق في قول أهل اللغة جميعهم يقال رجل حرج وحرج أي ضيق الصدر قال الشاعر:
لا حرج الصدر ولا عنيف
وقال عبيد بن عمير: قرأ ابن عباس هذه الآية فقال: "هل هنا أحد من بني بكر قال رجل نعم قال ما الحرجة فيكم قالوا الوادي الكثير الشجر الذي لا طريق فيه فقال ابن عباس: كذلك قلب الكافر" وقرأ عمر بن الخطاب الآية فقال: "ايتوني رجلا من كنانة واجعلوه راعيا فأتوه به فقال عمر: يا فتى ما الحرجة فيكم فقال الشجرة تحدق بها الأشجار الكثيرة فلا تصل إليها راعية ولا وحشية فقال عمر كذلك قلب الكافر لا يصل إليه شيء من الخير" قال ابن عباس: "يجعل صدره ضيقا حرجا إذا سمع ذكر الله اشمأز قلبه وإن ذكر شيء من عبادة الأصنام ارتاح إلى ذلك" ولما كان القلب محلا للمعرفة والعلم والمحبة والإنابة وكانت هذه الأشياء إنما تدخل في القلب إذا اتسع لها فإذا أراد الله هداية عبد وسع صدره وشرحه فدخلت فيه وسكنته وإذا أراد ضلاله ضيق صدره وأحرجه فلم يجد محلا يدخل فيه فيعدل عنه ولا يساكنه وكل إناء فارغ إذا دخل فيه الشيء ضاق به وكلما أفرغت فيه الشيء ضاق إلا القلب اللين فكلما أفرغ فيه الإيمان والعلم اتسع وانفسح