وهذا من آيات قدرة الرب تعالى وفي الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل النور قلبه انفسح وانشرح قالوا فما علامة ذلك يا رسول الله قال: الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله" فشرح الصدر من أعظم أسباب الهدى وتضييقه من أسباب الضلال كما أن شرحه من أجل النعم وتضييقه من أعظم النقم فالمؤمن منشرح الصدر منفسحه في هذه الدار على ما ناله من مكروهها وإذا قوي الإيمان وخالطت بشاشته القلوب كان على مكارهها أشرح صدرا منه على شهوتها ومحابها فإذا فارقها كان انفساح روحه والشرح الحاصل له بفراقها أعظم بكثير كحال من خرج من سجن ضيق إلى فضاء واسع موافق له فإنها سجن المؤمن فإذا بعثه الله يوم القيامة رأى من انشراح صدره وسعته ما لا نسبة لما قبله إليه فشرح الصدر كما أنه سبب الهداية فهو أصل كل نعمة وأساس كل خير وقد سأل كليم الرحمن موسى بن عمران ربه أن يشرح له صدره لما علم أنه لا يتمكن من تبليغ رسالته والقيام بأعبائها إلا إذا شرح له صدره وقد عدد سبحانه من نعمه على خاتم أنبيائه ورسله شرح صدره له وأخبر عن أتباعه أنه شرح صدورهم للإسلام، فإن قلت فما الأسباب التي تشرح الصدور والتي تضيقه قلت السبب الذي يشرح الصدر النور الذي يقذفه الله فيه فإذا دخله ذلك النور اتسع بحسب قوة النور وضعفه وإذا فقد ذلك النور أظلم وتضايق، فإن قلت فهل يمكن اكتساب هذا النور أم هو وهبي قلت هو وهبي وكسبي واكتسابه أيضا مجرد موهبة من الله تعالى فالأمر كله لله والحمد كله له والخير كله بيديه وليس مع العبد من نفسه شيء البتة بل الله واهب الأسباب ومسبباتها وجاعلها أسبابا ومانحها من يشاء ومانعها من يشاء إذا أراد بعبده خيرا وفقه لاستفراغ وسعه وبذل جهده في الرغبة والرهبة إليه فإنهما مادتا التوفيق فبقدر قيام الرغبة والرهبة في القلب يحصل التوفيق، فإن قلت فالرغبة والرهبة بيده لا بيد العبد قلت نعم والله وهما مجرد فضله ومنته وإنما يجعلهما في المحل الذي يليق بهما ويحبسهما عمن لا يصلح لهما فإن قلت فما ذنب من لا يصلح قلت أكثر ذنوبه أنه لا يصلح لأن صلاحيته بما اختاره لنفسه وآثره وأحبه من الضلال والغي على بصيرة من أمره فآثر هواه على حق ربه ومرضاته واستحب العمى على الهدى وكان كفر المنعم عليه بصنوف النعم وجحدا لهيئته والشرك به والسعي في مساخطه أحب إليه من شكره وتوحيده والسعي في مرضاته فهذا من عدم صلاحيته لتوفيق خالقه ومالكه وأي ذنب فوق هذا فإذا أمسك الحكم العدل توفيقه عمن هذا شأنه كان قد عدل فيه وانسدت عليه أبواب الهداية وطرق الرشاد فأظلم قلبه فضاق عن دخول الإسلام والإيمان فيه فلو جاءته كل آية لم تزده إلا ضلالا وكفرا وإذا تأمل من شرح الله صدره للإسلام والإيمان هذه الآية وما تضمنته من أسرار التوحيد والعذر والعدل وعظمة شأن الربوبية صار لقلبه عبودية أخرى ومعرفة خاصة وعلم أنه عبد من كل وجه وبكل اعتبار وأن الرب تعالى رب كل شيء وملكيه من الأعيان والصفات والأفعال والأمر كله بيده والحمد كله له وأزمة الأمور بيده ومرجعها كلها إليه ولهذه الآية شأن فوق عقولنا وأجل من أفهامنا وأعظم مما قال فيها المتكلمون الذين ظلموها معناها وأنفسهم كانوا يظلمون تالله لقد غلظ عنها حجابهم وكثفت عنها أفهامهم ومنعتهم من الوصول إلى المراد بها أصولهم التي أصلوها وقواعدهم التي أسسوها فإنها تضمنت إثبات التوحيد والعدل الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه والعدل الذي يقوله معطلو الصفات ونفاه القدر

طور بواسطة نورين ميديا © 2015