من كان يؤويني يُخرجني من عنده، فضاقت عليّ الأرض، فبينا أنا نائم ملفف رأسي في كسائي على
ظهر طريق، إذ مر بي الذي جاء في طلبي، فلما كان الليل، لم أكن طعمت قبل ذلك طعاماً ثلاثاً،
أتيت بعض أخوالي، بني ضبة، وعندهم عرس، فقلت أتيهم فأصيب من طعامهم، فبينا أنا قاعد إذ
نظرت إلى هادي فرس، وصدر رمح، قد جاوز باب الدار داخلا إلينا، فقاموا إلى حائط قصب
فرفعوه، فخرجت منه وألقوا الحائط مكانه، وقالوا: ما رأيناه. فمكثوا ساعة، ثم خرجوا، فلما أصبحنا
جاءوني فقالوا: اخرج إلى الحجاز عن جوارِ زيادٍ لا يظفر بك، ولو ظفروا بك البارحة لأهلكتنا،
وجمعوا لي ثمن راحلتين، وكلموا لي مُقاعساً، أحد بني تيم اللات بن ثعلبة، وكان دليلاً يسافر للتجار،
قال: فخرجنا إلى بانقيا، حتى انتهينا إلى بعض القصور التي تُنزل، فلم يُفتح لنا الباب، فألقينا رحالنا
إلى جنب الحائط، والليلة مقمرة، فقلت: أرأيت يا مقاعس، إن بعث زياد بعد أن نصبح إلى العتيق
رجالاً، وهو خندق كان للعجم، ما تقول العرب؟ يقولون أمهله يوماً وليلة، ثم أخذه، ارتحل. قال: إني
أخاف السباع. قلت: السباع أهون علي من زياد. فارتحلنا، لا نرى شيئاً إلا خلّفناه، ولزمنا شخص لا
يفارقنا. فقلت يا مقاعس: أترى هذا الشخص، لم نمر بشيء إلا جاوزناه غيره، فإنه يُسايرنا منذ
الليلة. قال: هذا السبع. قال: فكأنه فهم كلامنا، فتقدم حتى ربض على ظهر الطريق، فلما رأينا ذلك
نزلنا، فشددنا ناقتينا. بشاءين، وأخذت قوسي وقلت: يا ثعلب، أتدري من فررنا منه إليك؟ فررنا من
زياد. فحصب بذنبه حتى غشينا غباره وغشي ناقتينا. قال: فقلت أرميه. فقال: لا تهجه، فإنه إذا
أصبح ذهب. قال: فجعل يرعد ويزأرُ، ومقاعس يوعده، حتى انشق الصبح، فلما رآه ولّى وأنشأ
الفرزدق يقول:
ما كنتُ أحسبنُي جباناً بعدَ ما ... لاقيتُ ليلةَ جانب الأنهار
ليثاً كأنّ على يديه رِحالةً ... شَننَ البراثِنِ مُؤجدَ الأظفار