وأما أهل العلم والإيمان فيشهدون له بما شهد الله به وشهدت به ملائكته وخيار القرون أنه بلّغ البلاغ المبين القاطع للعذر المقيم للحجة الموجب للعلم واليقين لفظًا ومعنى والجزم بتبليغه معاني القرآن والسنة كالجزم بتبليغه الألفاظ، بل أعظم من ذلك؛ لأن ألفاظ القرآن والسنة إنما يحفظها خواص أمته. وأما المعاني التي بلّغها فإنه يشترك في العلم بها العامة والخاصة.
ولما كان بالمجمع الأعظم الذي لم يجمع لأحد مثله قبله ولا بعده، في اليوم الأعظم في المكان الأعظم؛ قال لهم: «أنتم مسؤولون عني؛ فما أنتم قائلون؟» قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، ورفع أصبعه الكريمة إلى السماء رافعًا لها إلى من هو فوقها وفوق كل شيء قائلًا: اللهم اشهد، فكأنا شهدنا تلك الأصبع الكريمة وهي مرفوعة إلى الله، وذلك اللسان الكريم وهو يقول: «اللهم اشهد»، ونشهد أنه بلّغ البلاغ المبين، وأدَّى رسالة ربه كما أُمر، ونصح أمته غاية النصيحة، وكشف لهم طرائق الهدى، وأوضح لهم معالم الدين وتركهم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، فلا يحتاج مع كشفه وبيانه إلى تنطع المتنطعين، فالحمد لله الذي أغنانا بوحيه ورسوله عن تكلفات المتكلفين.
قال أبو عبد الرحمن السلمي ـ أحد أكابر التابعين الذين أخذوا القرآن ومعانيه عن مثل عبد الله بن مسعود وعثمان بن عفان وتلك الطبقة ـ: «حدّثنا الذين كانوا يقرؤوننا القرآن من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلّى الله عليه وسلّم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، فتعلمنا القرآن والعلم والعمل».
فالصحابة أخذوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ألفاظ القرآن ومعانيه، بل كانت عنايتهم بأخذ المعاني أعظم من عنايتهم بالألفاظ، يأخذون المعاني أولاً، ثم يأخذون الألفاظ ليضبطوا بها المعاني حتى لا تشذ عنهم.