"فقال: لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم" لأن أهل الجبر لهم رأي، ونفاة القدر لهم رأي، فأهل الجبر الذين يقولون: إن الإنسان مجبور على تصرفاته معناه أنه جبرهم على شيء ثم عذبهم عليه فهو ظالم لهم، ألزمهم بأن يعملوا ما يعملون، أجبرهم على هذا العمل من شرك أو نفاق، أو عصيان، أو فسوق، ثم حاسبهم عليها، فهو ظالم لهم من هذه الحيثية، وإن كان الكل ملكه، فهو أجبرهم على هذا وباعتبارهم ملكه يرتفع عنه الوصف من هذه الحيثية، وإلا ليس لهم أي إرادة ولا اختيار ولا مشيئة، وكلامهم هذا لا شك أنه وإن نفوه بألسنتهم، نفوا الظلم إلا أن مقتضاه إثبات الظلم حينما يكون الإنسان مجبور على شيء ثم إذا فعله عذب عليه هذا ظلم، لكن هم يتنصلون من هذا بأنهم يقولون: ملكه، ولو عذبهم ولو عذب الله -جل وعلا- أطوع الناس وأعبد الناس صار غير ظالماً له، لكن مقتضى قولهم إن الله يظلم؛ لأنه أجبره ثم حكم عليه.
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له: ... إياك إياك أن تبتل بالماءِ
هذه حجتهم، وبالمقابل نفاة القدر، يقولون: لا قدر سابق، الأمر أنف، الله -جل وعلا- لا يعلم بشيء إلا إذا وقع، والعباد يخلقون أفعالهم، ويتصرفون التصرف الكامل بأنفسهم، ولذا يحاسبهم عليها، أما لو تصرفوا بشيء كتبه الله عليهم فإنه لا يحاسبهم على شيء كتبه الله عليهم، وقد ضلت الطائفتان ضلالاً مبيناً بعيداً، والخير كل الخير في التوسط، وهو مذهب أهل السنة والجماعة، فيرون أن المخلوق له إرادة وله مشيئة، يعني إذا أراد أن ينهض إلى المسجد ليصلي هل يوجد ما يمنعه؟ لا يستطيع أن يقوم على رجليه ويخطو خطوات إلى المسجد في شيء يمنع؟ نعم ما في ما يمنع، فجعل له إرادة وله قدرة واستطاعة، وبين له الطريق {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [(10) سورة البلد] بين له طريق الحق وطريق الضلال، ثم إذا اختار أحدهما هو الذي اختار هذا وعليه التبعة، فالمخلوق له مشيئة وله إرادة وله قدرة واستطاعة، لكن هذه المشيئة وهذه الإرادة غير مستقلة، بل هي تابعة لإرادة الله ومشيئته وقضائه وقدره، ولن يخرج عن هذا.