لِقَطْعِ مَا قَبْلَهَا عَمَّا بَعْدَهَا قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ يُسْتَحَبُّ الْإِتْيَانُ بِهَا فِي الْخُطَبِ وَالْمُكَاتَبَاتِ اقْتِدَاءً بِالْمُصْطَفَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَفِي أَوَّلِ مَنْ نَطَقَ بِهَا اخْتِلَافٌ وَتُسْتَعْمَلُ مَعَ أَمَّا وَالْوَاوِ مَعًا عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَمَعَ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى.

(ص) فَقَدْ سَأَلَنِي جَمَاعَةٌ أَبَانَ اللَّهُ لِي وَلَهُمْ مَعًا لِمَ التَّحْقِيقُ (ش) الْفَاءُ لِعَطْفِ مُفَصَّلٍ عَلَى مُجْمَلٍ مُقَدَّرٍ، وَهُوَ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ أَيْ وَأَذْكُرُ بَعْدَ خُطْبَتِي سَبَبَهَا فَقَدْ سَأَلَنِي جَمَاعَةٌ إلَخْ نَحْوَ {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا} [البقرة: 36] فَجُمْلَةُ فَأَخْرَجَهُمَا مُفَسِّرَةٌ لِمَا أُجْمِلَ قَبْلَهَا وَلَا يَصِحُّ جَعْلُهَا سَبَبِيَّةً؛ لِأَنَّ فَاءَ السَّبَبِيَّةِ هِيَ الَّتِي يَكُونُ مَا بَعْدَهَا مُسَبَّبًا عَمَّا قَبْلَهَا نَحْوَ {فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37] {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} [ص: 25] وَهِيَ هُنَا عَلَى الْعَكْسِ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ مُسَبَّبَةٌ عَنْ السُّؤَالِ اللَّهُمَّ إلَّا عَلَى مَا زَعَمَ الْفَرَّاءُ مِنْ أَنَّ مَا بَعْدَهَا قَدْ يَكُونُ سَابِقًا لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ نَحْوَ {أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} [الأعراف: 4] وَأَبَانَ أَيْ أَظْهَرَ وَالْمَعَالِمُ جَمْعُ مَعْلَمٍ مَفْعَلٍ مِنْ الْعَلَامَةِ وَهِيَ الْأَمَارَةُ عَلَى الشَّيْءِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْعَلَامَةَ نَفْسَهَا

ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ لِقَطْعِ) أَيْ لِإِفَادَةِ قَطْعِ مَا قَبْلَهَا إلَخْ وَقَوْلُهُ قَالَ بَعْضٌ وَمَذْهَبُنَا مِثْلُهُمْ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى نَصٍّ صَرِيحٍ فِي الْمَذْهَبِ وَأَتَى بِهَذَا الْكَلَامِ دَلِيلًا لِقَوْلِهِ وَتُسْتَعْمَلُ (قَوْلُهُ اقْتِدَاءً بِالْمُصْطَفَى إلَخْ) أَيْ فَقَدْ ثَبَتَ كَمَا فِي بَعْضِ الشُّرَّاحِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَى بِهَا فِي خُطَبِهِ وَكُتُبِهِ فَيُسْتَحَبُّ الْإِتْيَانُ بِهَا فِي أَوَائِلِ الْخُطَبِ وَالْكُتُبِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَإِنْ قُلْت) ذَكَرَ الْحَافِظُ الرَّهَاوِيُّ فِي أَرْبَعِينِهِ عَنْ أَرْبَعِينَ صَحَابِيًّا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ أَمَّا بَعْدُ فِي خُطْبَتِهِ وَشَبَهِهَا» أَيْ كُتُبِهِ فَاَلَّذِي وَرَدَ إنَّمَا هُوَ أَمَّا بَعْدُ وَالْمُصَنِّفُ قَالَ وَبَعْدُ وَالْمُنَاسِبُ اتِّبَاعُ الْوَارِدِ (وَالْجَوَابُ) أَنَّ الْمُصَنِّفَ تَابِعٌ لِغَيْرِهِ فَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّهَا بِمَنْزِلَتِهِ انْتَهَى.

(قَوْلُهُ اخْتِلَافٌ) فَقِيلَ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهَلْ هِيَ فَصْلُ الْخِطَابِ الَّذِي أُوتِيَهُ؛ لِأَنَّهَا تَفْصِلُ بَيْنَ الْمُقَدِّمَاتِ وَالْمَقَاصِدِ وَالْخُطَبِ وَالْمَوَاعِظِ أَوْ هُوَ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ خِلَافٌ وَقِيلَ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَا يَعْقُوبُ فَفِي غَرِيبِ مَالِكٍ لِلدَّارَقُطْنِيِّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ «أَنَّ يَعْقُوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ قَالَ مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِهِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ مُوكَلٌ بِنَا الْبَلَاءُ» وَقِيلَ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَا أَيُّوبُ وَقِيلَ قُسُّ بْنُ سَاعِدَةَ الْأَيَادِيُّ وَقِيلَ كَعْبُ بْنُ لُؤَيٍّ وَقِيلَ يَعْرُبُ بْنُ قَحْطَانَ وَقِيلَ سَحْبَانُ بْنُ وَائِلٍ وَنَظَمَ ذَلِكَ رَضِيُّ الدِّينِ الْعَزِيُّ فَقَالَ

جَرَى الْخُلْفُ أَمَّا بَعْدُ مَنْ كَانَ بَادِئًا ... بِهَا خَمْسَةُ الْأَقْوَالِ دَاوُد أَقْرَبُ

وَكَانَتْ لَهُ فَصْلُ الْخِطَابِ وَبَعْدَهُ ... فَقُسُّ فَسَحْبَانُ فَكَعْبُ فَيَعْرُبُ

(قَوْلُهُ وَتُسْتَعْمَلُ مَعَ إمَّا وَالْوَاوِ) كَذَا قَالَ الْحَطَّابُ قَالَ فِي ك فِيهِ نَظَرٌ تَبِعَ فِيهِ ابْنَ أَبِي شَرِيفٍ وَغَيْرَهُ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا كَمَا قَالَهُ الْكَسْتَلِيُّ عَلَى شَرْحِ عَقَائِدِ النَّسَفِيِّ انْتَهَى، ثُمَّ أَقُولُ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْوَاوَ اسْتِئْنَافِيَّةٌ (قَوْلُهُ لِي وَلَهُمْ) قَدَّمَ نَفْسَهُ فِي الدُّعَاءِ الصَّالِحِ حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ {رَبِّ اغْفِرْ لِي} [نوح: 28] وَفِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا ذَكَرَ أَحَدًا وَدَعَا لَهُ بَدَأَ بِنَفْسِهِ» .

(قَوْلُهُ الْفَاءُ لِعَطْفِ مُفَصَّلٍ إلَخْ) أَوْ أَنَّ الْفَاءَ وَاقِعَةٌ فِي جَوَابِ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ غَيْرَ أَنَّهُ يَرِدُ أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ مُسْتَقْبَلٌ وَسُؤَالُ الْجَمَاعَةِ لَيْسَ بِمُسْتَقْبَلٍ بِالنِّسْبَةِ لِمَا قَبْلَهُ فَكَيْفَ يَكُونُ جَوَابًا (قُلْت) هُوَ جَوَابٌ عَلَى ضَرْبٍ مِنْ الْمَجَازِ وَفِي الْحَقِيقَةِ الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ أُقِيمَ هَذَا مَقَامَهُ وَالتَّقْدِيرُ فَإِنِّي قَائِلٌ لَك قَدْ سَأَلَنِي (قَوْلُهُ عَلَى مُجْمَلٍ) أَيْ مُجْمَلٍ مُتَعَلِّقُهُ أَوْ مُجْمَلٍ بِاعْتِبَارِ مُتَعَلِّقِهِ وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ هُوَ اُذْكُرْ وَالْمُجْمَلُ إنَّمَا هُوَ مُتَعَلِّقُهُ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ سَبَبُهَا وَوَجْهُ إجْمَالِهِ أَنَّ هَذَا السَّبَبَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سُؤَالَ الْجَمَاعَةِ أَوْ غَيْرَهُ كَمَيَلَانِ نَفْسِهِ أَوْ رُؤْيَةٍ مَنَامِيَّةٍ ثُمَّ فَصَّلَ هَذَا الْإِجْمَالَ أَيْ بَيَّنَ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْمُجْمَلِ (قَوْلُهُ نَحْوَ {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ} [البقرة: 36] حَاصِلُهُ أَنَّهُ قُرِئَ فَأَزَلَّهُمَا قَالَ الْجَلَالُ أَيْ أَذْهَبَهُمَا، ثُمَّ قَالَ وَفِي قِرَاءَةٍ فَأَزَالَهُمَا أَيْ نَحَاهُمَا عَنْهَا أَيْ الْجَنَّةِ، ثُمَّ قَالَ فِي قَوْلِهِ فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ أَيْ مِنْ النَّعِيمِ فَإِذَا عَلِمْت ذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ بِمَعْنًى وَأَنَّ الْعَطْفَ مِنْ عَطْفِ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ لَا مِنْ عَطْفِ مُفَصَّلٍ عَلَى مُجْمَلٍ فَتَدَبَّرْ (قَوْلُهُ {فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37] عَطْفٌ عَلَى {فَتَلَقَّى آدَمُ} [البقرة: 37] إلَخْ وَقَوْلُهُ {فَغَفَرْنَا} [ص: 25] عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ {وَخَرَّ رَاكِعًا} [ص: 24] (قَوْلُهُ إلَّا عَلَى مَا زَعَمَ الْفَرَّاءُ) أَيْ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْفَرَّاءُ، وَأَمَّا غَيْرُ الْفَرَّاءِ فَيَقُولُ مَعْنَى أَهْلَكْنَاهَا أَرَدْنَا إهْلَاكَهَا (قَوْلُهُ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ) لَا يَخْفَى أَنَّ مَجِيءَ الْبَأْسِ هُوَ الْعَذَابُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَجِيءَ الْعَذَابِ إنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ الْإِهْلَاكِ بَعْدُ فَلَا سِيَاقَ بَعْدَ هَذَا يُسْتَدَلُّ بِهِ فَلَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ قَدْ يَكُونُ سَابِقًا لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى.

(فَائِدَةٌ) قَرِينَةُ السِّيَاقِ أَمْرٌ يُؤْخَذُ مِنْ الْكَلَامِ الْمَسُوقِ لِبَيَانِ الْمَقْصُودِ سَوَاءٌ كَانَ سَابِقًا عَلَى اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى خُصُوصِ الْمَقْصُودِ أَوْ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْهَا بِدَلَالَةِ السِّبَاقِ أَيْضًا قِيلَ وَاسْتِعْمَالُ السِّيَاقِ بِالْمُثَنَّاةِ فِي الْمُتَأَخِّرِ أَكْثَرُ أَمَّا دَلَالَةُ السِّبَاقِ بِالْمُوَحَّدَةِ فَهِيَ دَلَالَةُ التَّرْكِيبِ عَلَى مَعْنًى يَسْبِقُ إلَى الْفَهْمِ مِنْهُ مَعَ احْتِمَالِ إرَادَةِ غَيْرِهِ ذَكَرَهُ الْكَمَالُ بْنُ أَبِي شَرِيفٍ (قَوْلُهُ أَيْ أَظْهَرَ) لَا بِمَعْنَى فَصْلٍ هُنَا، وَإِنْ كَانَ أَبَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَعَلَيْهِ فَمَعَالِمُ مَفْعُولٌ أَوَّلٌ وَلِي وَلَهُمْ مَفْعُولٌ ثَانٍ وَقُدِّمَ لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهِ (قَوْلُهُ مَعْلَمٌ) سَيَأْتِي أَنَّ الْمَعْلَمَ هُوَ الْأَثَرُ الَّذِي يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الطَّرِيقِ فَإِذَنْ يَكُونُ مِنْ أَفْرَادِ الْعَلَامَةِ بِتَفْسِيرِهِ فَإِذَنْ يَكُونُ قَوْلُهُ مِنْ الْعَلَامَةِ أَيْ مَأْخُوذٌ لَا مُشْتَقٌّ لِعَدَمِ صِحَّتِهِ (قَوْلُهُ وَهِيَ الْأَمَارَةُ) تَفْسِيرٌ لِلْعَلَامَةِ (قَوْلُهُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْعَلَامَةَ نَفْسَهَا) أَيْ فَرْدًا مِنْهَا، وَهُوَ الْأَثَرُ الَّذِي يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الطَّرِيقِ لِقَوْلِهِ اسْتِدْلَالًا عَلَى قَوْلِهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ.

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فَإِذَنْ يَكُونُ فِي الْعِبَارَةِ اسْتِعَارَةٌ بِالْكِنَايَةِ شَبَّهَ التَّحْقِيقَ الَّذِي هُوَ إثْبَاتُ الْأَحْكَامِ بِأَدِلَّتِهَا بِالطَّرِيقِ الْمَسْلُوكَةِ تَشْبِيهًا مُضْمَرًا فِي النَّفْسِ وَاسْتُعِيرَ اسْمُ الْمُشَبَّهِ بِهِ لِلْمُشَبَّهِ فِي النَّفْسِ وَدَلَّ عَلَيْهِ بِذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ مُلَائَمَاتِ الْمُشَبَّهِ بِهِ اسْتِعَارَةٌ تَخْيِيلِيَّةٌ وَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَعَارَ مَعَالِمُ لِلْأَدِلَّةِ الَّتِي يُهْتَدَى بِهَا شَبَّهَ الْأَدِلَّةَ بِالْأَثَرِ الَّذِي يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الطَّرِيقِ بِجَامِعِ الِاهْتِدَاءِ وَاسْتَعَارَ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015