وسيأتي بعد باب من حديث ابن عباس: قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لصبح رابعة ... الحديث، ولا شك أنه خرج من مكة صبح الرابع عشر، فتكون مدة الإقامة بمكة وضواحيها عشرة أيام بلياليها، كما قال أنس، وتكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام سواء؛ لأنه خرج منها في اليوم الثامن فصلى الظهر بمنى، ومن ثم قال الشافعي: إن المسافر إذا أقام ببلدة قصر أربعة أيام، وقال أحمد: إحدى وعشرين صلاة.
وأما قول ابن رشيد: أراد البخاري أن يبين أن حديث أنس داخل في حديث ابن عباس؛ لأن إقامة عشر داخل في إقامة تسع عشرة، فأشار بذلك إلى أن الأخذ بالزائد متعين، ففيه نظر؛ لأن ذلك إنما يجيء على اتحاد القصتين، والحق أنهما مختلفتان، فالمدة التي في حديث ابن عباس يسوغ الاستدلال بها على من لم ينو الإقامة، بل كان متردداً متى يتهيأ له فراغ حاجته يرحل، والمدة التي في حديث أنس يستدل بها على من نوى الإقامة؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- في أيام الحج كان جازماً بالإقامة تلك المدة.
ووجه الدلالة من حديث ابن عباس لما كان الأصل في المقيم الإتمام، فلما لم يجئ عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه أقام في حال السفر أكثر من تلك المدة جعلها غاية للقصر.
الجمهور الذين يحددون لا سيما بالأربعة أيام يرون أن الثلاثة لا تعد إقامة، ومفهومها أن ما زاد عليها إقامة؛ لأنه لا يجوز للمهاجر أن يقيم بعد فراغه من نسكه ثلاثة أيام، فدل هذا على أن الثلاثة ليست إقامة، ومفهومها أن ما زاد عليها إقامة، وحينئذٍٍ يلزمه أن يصلي صلاة مقيم.
قال -رحمه الله-: وقد اختلف العلماء في ذلك على أقوال كثيرة كما سيأتي، وفيه أن الإقامة في أثناء السفر تسمى إقامة، وإطلاق اسم البلد على ما جاورها وقرب منها؛ لأن منى وعرفة ليسا من مكة، أما عرفة فلأنها خارج الحرم، فليست من مكة قطعاً، وأما منى ففيها احتمال، والظاهر أنها ليست من مكة، إلا إن قلنا: إن اسم مكة يشمل جميع الحرم.