وفي موضع الكلام على النجاسة إذا لاقت الماء الطهور كأن تقول: وقعت قطرة خمر -عند من يقول بنجاسة الخمر- على ماء، فمذهب الشافعي: أن الماء إذا لاقى نجاسة -سواء كان حوضاً كبيراً أم إناءً صغيراً- فغيرت وصفاً من أوصافه طعماً أو لوناً أو ريحاً صار الماء نجساً وهذا بالإجماع كما قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم أن الماء إذا تغير أحد أوصافه بملاقاة النجاسة صار نجساً، واستند بذلك على الإجماع وليس على الحديث، فالحديث ضعيف ولا حجة في الأحاديث الضعاف بأي حال من الأحوال.
أما إذا كان الماء قليلاً فهذا هو موضع المعترك بمعنى: لو أن ولداً صغيراً مثلاً دخل إلى حوض لرجل أراد أن يغتسل فبال في هذا الحوض، وهذا الماء كما هو لم يتغير، ودخل الرجل يريد الاغتسال وما عنده إلا هذا الماء المخزون فهل يصح أن يغتسل من هذا الماء وهو لم يتغير مع أن النجاسة لاقته؟ المذهب الشافعي يقول: الماء القليل إذا لاقته نجاسة غيرت أو لم تغير فيه فإنه نجس، أي: أنه لا يصح رفع الحدث به، ولا تصح إزالة النجاسة، بل ولا يصح استعماله بحال من الأحوال، وعليه إراقة هذا الماء، ودليلهم: حديث ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) قالوا: وهذا منطوق، والمفهوم: أنه إذا كان أقل من قلتين حمل الخبث: أي: ما استطاع أن يدفع الخبث عن نفسه إذا لاقته النجاسة فاستقرت فيه، وذابت جزيئاتها في جزئيات الماء فصار حكمه نجساً.
لكن الأحناف شددوا الوطأة عليهم وقالوا: المنطوق الذي تستندون إليه ليس لكم فيه ناقة ولا جمل، فمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) يعني: لم يتحمل، أي: لو كان قلتين فوقعت فيه نجاسة لم يتحمل النجاسة وأثرت فيه ونجسته، فكيف تفرقون بين قلتين وبين غيره؟ فهم يطعنون في الشافعية من أجل القلتين وإلا فهم يقولون أيضًا بالقليل والكثير، لكنهم قالوا: إن هذا الماء لا يمكن أن يتحمل النجاسة، ولا يمكن أن تؤثر فيه فقلنا لهم: هذا الكلام وإن كان له احتمال لكن احتماله ضعيف جداً، وعندنا عمدة من الأدلة التي نعتز بها أو نعض عليها بالنواجذ منها: الرواية الأخرى التي جاءت عن النبي قال: (إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس) وهذا صريح في المقام وهو رد قاطع على الأحناف، والحديث يفسر الحديث، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لم ينجس) فقول الأحناف لم يتحمل الخبث قولٌ خطأ؛ فقد فسره الحديث الثاني، فقال: (لم ينجس)، أي: لم يحمل النجاسة أو لم تؤثر فيه النجاسة.
قالوا: والدليل الثاني في التفريق بين القليل والكثير: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يضع يده في الإناء حتى يغسلهما أو حتى يغسلها ثلاثاً) قالوا: وهذا ليس تعبدياً بل هو معلل، والعلة قالها النبي صلى الله عليه وسلم إشارة: (لأنه لا يدري أين باتت يده) وهذا فيه إشارة وتلميح من النبي صلى الله عليه وسلم على أن الحديث له علة، والعلة: أن يده من الممكن أن تمس أثر النجاسة لأنهم كانوا يستطيبون بالأحجار، فيزيلون العين ويبقى الأثر، فمن الممكن أن تحتك الأصابع أو اليد بالجسد فتؤثر، أو يعرق المرء فتلمس النجاسة، وهذه النجاسة ستكون غير ظاهرة، فلو وضع يده في الإناء الذي ماؤه ليس كماء البحر، وإنما هو ماء قليل، فإذا وضع يده في ماء قليل فإنه سيتغير وصف من أوصافه؛ فسيضع يده التي تحمل النجاسة فتنجسه.
فإذاً: -قالوا: إن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بألا يضع يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً، وبيان العلة أو الإشارة إلى العلة في آخر الحديث: (لأنه لا يدري أين باتت يده) يدل على التفريق بين القليل وبين الكثير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل بلغ أو لم يبلغ، تغير أو لم يتغير، قال: (في الإناء) والإناء هذا إشارة إلى أن الماء قليل، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: إذا غير فهو نجس، وإن لم يغير فليس بنجس، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم قولاً، فدل على أن الحكم واحد سواء غير أم لم يغير.
فقوله: (لأنه لا يدري أين باتت يده) فيه: إشارة من النبي صلى الله عليه وسلم أنها لو باتت في مكان نجس فستنجس هذا الماء، لكن المالكية لم يجدوا قولاً قوياً يردوا به إلا أن قالوا: لا نوافق على أن الحديث معلل، بل الحديث تعبدي، وهذه الأعمال تعبدية كالأربع ركعات في الظهر والثلاث ركعات في المغرب، قلنا: القاعدة عند علمائنا: إذا دار الحكم على التعليل أو على التعبد وجب حمله على التعليل لا التعبد؛ لأن الله في أكثر من حكم يخاطب العقول (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه)، فدل ذلك على أن الله يخاطب العقول ويعلل الأحكام، وهذه حكمة من الله جل في علاه حتى تزداد الإيمانيات، فإذا دار حكم الحديث على التعبد أو على التعليل وجب حمله على التعليل، هذا هو الأولى والصحيح، فإذاً نقول لهم: إذا قلتم: يحمل على التعبد قلنا لكم: قد أشار النبي صلى الله عليه وسلم بالتعليل عندما قال: (لا يدري أين باتت يده)، قالوا: وهذا تفريق بين القليل والكثير.
قالوا: الدليل الثالث: حديث (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم) في رواية قال: (فليرق هذا الماء لما يصيبه)، فيريقه مع أن إتلاف المال لا يجوز، لكن يريقه؛ لأنه تنجس، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يفصل: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فتغيرت أحد أوصافه فليرق هذا الماء، أو قال: إن لم تتغير أحد أوصافه فعليكم بالماء واستخدموه، بل قالها مطلقاً، فدل على استواء كلا الحالتين، قال: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه وليغسله سبعاً ويعفره الثامنة بالتراب -أو قال: أولاهن بالتراب، أو قال: عفروه الثامنة بالتراب أو آخرهن بالتراب-)، ففيه دليل: على أن الماء القليل تنجس لما ولغ فيه الكلب، وهذا تعضيد لمن يقول بالتفريق بين القليل والكثير.
أيضًا الحديث الرابع وهو: حديث الهرة: (عندما قرب صاحب الهرة الإناء لها لتشرب منه فنظرت زوجة ابنه مندهشة، فقال: لم تندهشين؟ أو قال: لا تعجبين يا بنيتي! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنها من الطوافين عليكم والطوافات)، أي: أنها ليست بنجس، وهذا ظاهر الدلالة، إذاً: يبقى مفهوم المخالفة: فلو كانت الهرة نجسة لكان لعابها نجساً، ولو كان نجساً لنجس الإناء، فهذه دلالة واضحة أيضًا لهم في التفريق بين القليل والكثير.
ومن الأحناف طائفة تقول: نحن نفرق كما تفرقون، لكنا لا نقول بقولكم، فنحن نقول إن التحديد في القليل والكثير بتحريك الماء، بمعنى أننا إذا وقفنا على حافة البئر حركنا طرف البئر من هنا فإذا تحرك في آخره فهذا ماء قليل، فإذا وقعت النجاسة فيه فقد نجس، وإن لم يتحرك فهذا ماء كثير، فإن النجاسة لو وقعت فيه لم تنجسه، وهذا الخلاف لا نريد أن ندخل فيه حتى لا نشوش عليكم، فنبقى في الخلاف القوي أفضل.
أما قول المالكية في ذلك فقد جاءوا بأدلتهم وهي من القوة بمكان، فقالوا: لا نقبل قولكم، بل عندكم من قبل قولنا وتمنى أن الشافعي قال بقولنا، كما قال الغزالي: تمنيت لو أنه رجع الشافعي إلى قول مالك في هذه المسألة، وما ذلك إلا للتأثير القوي والنظر الدقيق في هذه المسألة، ودليلهم هو قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث بئر بضاعة) (عندما سألوه: يا رسول الله! بئر بضاعة يلقى فيه الكلاب والنتن والحيض أو قالوا: المحايض؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الماء طهور لا ينجسه شيء) فالماء: اسم جنس معرف بالأل واللام يطلق على الماء القليل والماء الكثير، ورد الشافعية عليهم وقالوا لهم: قول النبي صلى الله عليه وسلم في الماء ليس على العموم؛ لأن هذه القصة حدثت في بئر بلغ القلتين وأكثر من القلتين، كما قال أبو داود: إنه طاف على بئر بضاعة فألقى رداءه فكان ذراعاً وربعاً عمقاً وذراعاً وربعاً طولاً وذراعاً وربعاً عرضاً؛ ولذلك قيد الشافعية القلتين: بخمسمائة رطل عراقي أو خمس قرب، وقالوا: هذا مخصوص، وقد رد عليهم المالكية بقولهم: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فلا يهمنا بئر بضاعة أو غيره فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الماء عموماً، أي: كل الماء قليلاً كان أو كثيراً، واجتمعنا نحن وأنتم على ما غيّر طعماً أو لوناً أو رائحة، وهذا أول دليل.
أما الدليل الثاني للمالكية -وهذا الدليل أقوى من الأول- ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: (دخل أعرابي المسجد فبال في ناحية المسجد فهم الصحابة بقتله، وقام الصحابة عليه، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: لا تزرموه -أي: لا تقطعوا عليه بوله، اتقوا الله وكونوا رفقاء بأصحابي -ثم قال: أهريقوا على بوله سجلاً من ماء، أو قال: ذنوباً من ماء)، والذنوب هذا: إناء فيه قليل من الماء، فقوله: أهريقوا عليه سجلاً أو ذنوباً من الماء، قالوا: وهذا واضح الدلالة بأن الماء القليل إذا لاقى النجاسة فحكمه حكم ماء الطهارة إلا إذا تغير طعم أو لون أو رائحة، ووجه الدلالة عند المالكية قالوا: فقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم بطهارة المحل، وطهارة المحل هذه جاءت بملاقاة الماء القليل لهذا البول الكثير، فلاقى الماء القليل الكثير من البول، وحكم النبي صلى الله عليه وسلم بطهارة المحل؛ لأنه أباح لهم الصلاة بعد ذلك، فلما حكم بطهارة المحل دل على أن الماء القليل إن لم يتغير أوصافه ولاقى نجاسةً فإنه لا يصير حكمه حكم النجاسة.
وقد رد المالكية على أدلة الشافعية في ذلك فقالوا: أنتم تحتجون أولاً بحديث: إذا بلغ الماء قلتين، وهذا عمدة أدلتكم، فالرد عليكم من وجهين: (الوجه الأول: هذا الحديث ضعيف ولسنا