لكن انتصاراً للمذهب لا تقليداً فالصحيح الراجح هو القول الأول: قول الشافعية؛ لأن هذا الذي تلتئم به شمل الأحاديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد فرق بين القليل وبين الكثير في قوله: (لا يضع يده في الإناء حتى يغسلهما)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم) فيه تفريق بين القليل وبين الكثير، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث).
أيضًا تفريق بين القليل وبين الكثير وهذا ظاهر جداً.
وأما الأدلة الثانية التي جاءت عامة كقوله صلى الله عليه وسلم: (الماء طهور لا ينجسه شيء)، فسنرد عليها ثم نرد على الأدلة الأخرى، فأما قولكم بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الماء طهور لا ينجسه شيء) وافقناكم على ذلك وقلنا هذا حديث عام، وحديثنا: إذا بلغ الماء القلتين خاص فالمفهوم الخاص هذا يخصص العموم في حديث الماء، فهو لا ينجسه شيء بمعنى: أن الماء كل الماء قليلاً كان أو كثيراً (الماء طهور لا ينجسه شيء) ويأتي مفهوم المخالفة بحديث (إذا بلغ الماء قلتين) فنقول: عندنا قاعدة أصولية: وهي أنه إذا تعارض عام مع خاص فلا بد أن يتقدم الخاص على العام، فنقول: معنى كلام النبي صلى الله عليه وسلم: (الماء طهور) يعني: إن كان فوق القلتين فهو طهور لا ينجسه شيء، فإذا وقعت النجاسة في الماء الذي بلغ القلتين فلم تغير أحد أوصافه فهو طهور لا ينجسه شيء، فقد خصصنا هذا العموم بمفهوم (إذا بلغ الماء قلتين)، وهذا صحيح أصولياً: إذ العام لا يتعارض مع الخاص ويقدم الخاص على العام.
قلنا: وقد رددتم على أدلتنا بتعارض المنطوق مع المفهوم، وقلنا: هذا جيد، إذا تعارض المنطوق مع المفهوم قدم المنطوق على المفهوم، لكن هناك شيء آخر لا بد أن تدركوه ألا وهو: أن المنطوق والمفهوم لهما تعامل أولاً، فإذا استطعنا الجمع بين المنطوق والمفهوم فالجمع مقدم على الترجيح؛ لأن القاعدة عند العلماء: إعمال الكلام أولى من إهماله؛ لأنك لو قلت بعموم هذا الحديث طرحت خصوص الحديث الثاني، وإذا قلت بالخصوص طرحت العموم، فأنت تجمع بين الاثنين، فتقول: يعمل العام في مجاله، ويعمل الخاص في مجاله، فنحن نقول: إذا تعارض المنطوق مع المفهوم قدمنا المنطوق إلا إذا استطعنا التوفيق بين المنطوق وبين المفهوم، وبذلك يمكن جمعه بأن يعمل العام في عمومه، فيقال: الماء طهور لا ينجسه شيء إذا كان فوق القلتين فوقعت فيه النجاسة فلا نحكم بنجاسته حتى يتغير وصف من أوصافه، ونعمل بالخصوص أيضًا إن كان أقل من القلتين فإننا نحكم بنجاسته إذا لاقى نجاسة.
والرد على الحديث الثاني وهو حديث بول الأعرابي هو من القوة بمكان، فنقول: الحمد لله أننا من أهل الإسلام، وندور مع الإسلام حيث دار، وندور مع الآثار حيث دارت، والشرع هو الذي قال: لا يضع يده في الإناء حتى يغسلهما ثلاثاً خوفاً من ملاقاة النجاسة؛ لأنه لا يدري أين باتت يده، والشرع هو الذي أمر بصب ذنوب الماء على البول، فنحن نقول لكم: نحن مع الرسول حيث ما اتجه، فقد اتجه أولاً: بألا نضع أيدينا في الإناء حتى لا ينجس الإناء وقلنا به، واتجه ثانياً عندما كان البول في الأرض أن تصب عليه الماء، ونحن قلنا بهذا، فإذا كنا نحن نفرق بين القليل وبين الكثير فنحن نفرق كذلك بين ورود النجاسة على الماء وبين ورود الماء على النجاسة، فإذا قالوا: هل الورود مؤثر؟ قلنا: لا ليس الورود هو المؤثر، بل النجاسة إذا وردت على الماء، أو سقطت على الماء كان لها قوة على زج جزيئاتها في جزيئات الماء فتؤثر في الماء حكماً، فلو أن الماء في إبريق فصببناه النجاسة فإنه سينزل دفعة واحدة فيتدفق تباعاً، فإذا ورد الماء على النجاسة تباعاً فإن الدفعة الأولى ستفتت جزيئات النجاسة، والدفعة الثانية تضيع هذه العين أو الأثر، ثم تأتي الثالثة فتنهي أو تغمر هذه الجزيئات القليلة في الدفعات التي تتوالى فيبقى المكان أو المحل طاهراً، فإذا ورد الماء على النجاسة كانت له قوة دفع، ولذلك قال العلماء: إن الماء يغير الماء بطرائق كثيرة منها: أن الماء يتغير بالمكاثرة؛ لأن له قوة يدفع بها النجاسة عن نفسه، أما رأيت أنه يدفع النجاسة عن نفسه إذا بلغ القلتين، فهذه قوة في الماء، فالماء إذا انصب أو ورد على النجاسة كانت له قوة دفع النجاسة وتفتيتها، فتنغمر ولا تظهر أبداً في الماء، أما إذا سقطت النجاسة في الماء فقبعت في القاع فقد تحللت جزيئاتها في جزيئات الماء، فإذاً: نحن أسعد الناس بالأدلة والآثار، وندور مع الآثار حيث دارت، أولاً: مع أثر النبي في ألا يضع يده في الإناء؛ لأن النجاسة لو سقطت فستتحلل وتحول حكم الماء، وأيضًا مع الرسول حينما قال صبوا عليه ذنوباً من الماء؛ لأن الماء له قوة دفع، فسيدفع هذه النجاسة ويفتتها فلا تتحلل جزيئاتها إلا في الدفعة الأولى، ثم يأتي والباقي على محل طاهر فيبقى المحل طاهراً، إذاً هذا الحديث هو عمدة أدلتهم وقد انهار بفضل الله، فتسلم لنا الأدلة ويسلم لنا قول المذهب بالتفريق بين القليل وبين الكثير، وإن كان بعض الحنابلة قد قال بعدم التفريق، وقال بقول مالك، لكن المحققين في مذهب الإمام أحمد يقولون بقول الشافعي في التفريق بين القلتين وبين غيره، وانظر في المغني وغيره في الإنصاف فستجد أن المحققين من الحنابلة يرجعون لهذا القول؛ لأن هذا القول أقوى من ناحية الأثر والنظر، فنحن نقول لهم: إن ناحية النظر أيضًا معنا؛ لأن القاعدة عندنا وعندكم: أن الأمر إذا ضاق اتسع، وإذا اتسع ضاق، والمشقة تجلب التيسير، فقلنا لهم: لما كانت المشقة في مسألة القلتين تصب على البول الذي باله الأعرابي فإن الناس لن يصلوا على الأرض، بل سيصلون وهم يسبحون، فنقول: هذه مشقة على الناس أن يفعلوا ذلك، فجاء الحكم بالتخفيف، وقال: أوردوا الماء على النجاسة فإن ورود الماء على النجاسة له قوة دفع يدفع النجاسة والعكس بالعكس، فلما كان الإناء يمكن حفظه قيل له: سقطت فيه النجاسة وأثرت فيه؛ لأنه يمكن أن يحفظه، والمشقة تجلب التيسير، فتسلم بذلك الأدلة، ويبقى لنا الدليل ناصع البياض ظاهراً لا تشويش عليه، فإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث في التفريق بين القليل وبين الكثير.