أقسام الماء المستعمل: القسم الأول: ماء استعمل لإزالة النجس؛ لأن الطهارة الحسية طهارتان: طهارة لإزالة النجس، وطهارة لرفع الحدث، ولذلك جاء في حديث المغيرة بن شعبة في الصحيح قال: (ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الأشجار -يعني ذهب فأبعد- وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد قضاء الحاجة أبعد فقضى حاجته، فأتاه بإداوة فيها ماء فأخذ الماء فاستنجى به، ثم توضأ ومسح على الخفين)، فالاستنجاء بالماء هو: استعمال الماء، ويسمى: (الاستطابة).
القسم الثاني: ماء استعمل لرفع الحدث.
فأما القسم الأول المستعمل في إزالة النجس فهو نجس بالاتفاق، ولا تصح الطهارة به ولا استعماله، والدليل على ذلك: أنه ماء قليل لاقى نجاسة، سواء تغير أم لم يتغير، وهذا على المذهب وهو الراجح.
والخلاصة: أن الماء المستعمل لإزالة النجس، غير طاهر وغير طهور.
وأما القسم الثاني -وهو الذي وقع فيه الخلاف- فهو الماء المستعمل في رفع الحدث، بشرط أن ينفصل عن العضو، وشرط آخر: أن يستعمل في طهارة فرض لا نفل.
وسبق أن قلنا بترجيح القيد الأول أو الشرط الأول.
وهذه المسألة في المذهب لها قولان، وقبل أن أدخل في هذه المسألة فإنه إذا قال الشافعية: في المسألة قولان، فالمراد بذلك قولان لإمام المذهب، وإذا قالوا: في المسألة وجهان، فالمراد بذلك: تخريج الأصحاب على قول للشافعي، فهو لم يرد القول للشافعي، وإنما أخذوا أصول الشافعي وخرجوا له منها قولاً.
إذاً: في المسألة قولان ينقل عن الشافعي: القول الأول: عدم استعمال هذا الماء؛ لأنه مسلوب الطهورية، فهو طاهر في نفسه وليس بطهور، ورجحه النووي.
والقول الثاني: قاله أبو ثور، -وأبو ثور من أصحاب الإمام الشافعي - والصحيح أنه قول للشافعي بأنه: طهور، ويترك تعبداً، ورجحه الرافعي.
وأدلة الفريقين على النحو الآتي: فالفريق الأول لهم أدلة من الأثر والنظر: أما من الأثر: فاستدلوا بحديث في سنن أبي داود: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة)، وقد حسنه بعض العلماء، وضعفه آخرون.
فقالوا: نحن نتفق جميعاً على أن المتبقي في الإناء من فضل طهور المرأة يصح للإنسان أن يتوضأ به ويستعمله؛ لأنه ليس بمستعمل، ولم ينفصل عن العضو، ثم يبقى لنا توجيه هذا الحديث الذي نهى فيه النبي صلى الله عليه وسلم عن التطهر والوضوء بفضل طهور المرأة، فنقول: توجيه نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الوضوء بفضل طهور المرأة محمول على الماء المستعمل.
ومما استدلوا به كذلك: حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح، قال النبي: (لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب) وتوجيه الحديث: أن الماء هذا لا يصير نجساً بالاغتسال فيه، فلو انغمس الجنب في البئر، فإنه يرفع الحدث الأكبر عنه، ولا يصير الماء نجساً بذلك، قالوا: فنهي النبي صلى الله عليه وسلم هنا يتوجه على أن الماء يصير مستعملاً، فيأتي المكلف فيريد أن يستعمل الماء، فيعلم أن من الناس مَنْ قد استعمله، فلا يصح له استعماله؛ لأنه قد سلبت طهوريته بالاستعمال.
وأما دليلهم من النظر: فهو القياس على الماء الذي اتفقنا عليه؛ لأن هناك قاعدة عند العلماء تقول: عند التنازع نرد المختلف فيه إلى المتفق عليه، ونحن معاشر الشافعية متفقون على أن الماء الذي استعمل في إزالة النجاسة نجس، فعند ذلك نقيس هذا الماء على الماء المستعمل في إزالة النجاسة، فبالقياس ينبني لنا أن هذا الماء لا يصح استعماله.
وأما الفريق الثاني فلهم أدلة من الأثر والنظر: فأما من الأثر: فقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48]، قالوا: وتفسير الطهور بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غيَّر طعمه أو لونه أو ريحه)، وهذه الزيادة وقع الإجماع عليها كما ذكرنا وهذا الماء لم يتغيَّر منه أحد أوصافه الثلاثة، فلم تسلب منه الطهورية، ولم يتغير منه شيء.
أيضاً استدلوا بحديث، أنه صلى الله عليه وسلم عندما دخل على ميمونة، وكان قد بقي ماء من طهورها، فأراد صلى الله عليه وسلم استعماله فقالت: يا رسول الله! إني كنت جنباً، يعني: اغتسلت من هذا الماء وأنا جنب، فقال لها: (سبحان الله! إن الماء لا يجنب)، وهذا فيه دلالة على أن الماء باقٍ على أصل خلقته.
وأما دليلهم من النظر: فقالوا: نحن وأنتم متفقون على أن الماء الطهور: هو الماء الذي بقي على أصل خلقته، فلم يتغير منه طعم أو لون أو رائحة، وهذا الماء قد بقي على أصل خلقته، ولم نر فيه تغييراً في الطعم ولا في اللون ولا في الرائحة، فهذه أدلة من الأثر والنظر تبين لنا أن الماء المستعمل لم تسلب طهوريته، فلما قال ذلك الرافعي، اعترض النووي، وقال: أنت وأنا نتفق على المنع من استعماله، فلم تمنع من استعماله مع أنك قلت بطهوريته؟ قال الرافعي: قلت ذلك تعبداً، قال النووي: أنا ألجئك بالقول بسلب طهوريته، فقال له: وكيف ذلك؟ قال: إن أصحاب رسول الله عندما كانوا يسافرون ومعهم الماء، فكانوا يتوضؤون، فإذا احتاجوا إلى الماء لشربهم أو غيره تيمموا، ولا يجمعون الباقي من المستعمل في طهارتهم، فدل ذلك على أنه لو كان على الطهورية، لفعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ولاستعملوه، فقال له الرافعي: ألزمتني الحجة، وأنا أوافقك على أن الصحابة كانوا يتوضؤون ولا يجمعون هذا الماء ليستعملوه مرة ثانية، لكن ليس لعدم الطهورية، بل تعبداً أو استقذاراً، وهذا كلام المالكية.
والخلاصة: أن الراجح والصحيح: أن الماء المستعمل لرفع حدث باق على أصل خلقته، وهو على الطهورية، فلم تسلب الطهورية منه، وهو الراجح من المذهب، لكنه لم يستعمل إما استقذاراً وإما تعبداً.
وأما الرد على ما استدل به الفريق الأول فإننا نقول: أما الحديث الذي استدلوا به (أنه صلى الله عليه وسلم: نهى الرجل أن يتوضأ بفضل طهور المرأة)، فهو حديث متكلم فيه، أي: حديث ضعيف، وقد صححه الإمام النووي رحمه الله تعالى، وعلى فرض القول بصحته، فإن لنا فيه توجيهاً، وهو: أنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى أن يتوضأ الإنسان بفضل طهور المرأة، فنقول: إن هذا النهي هو للاستحباب، وليس للوجوب، ويكون لعلة الاستقذار فالإنسان عندما يرى امرأة تتوضأ أمامه يستقذر أن يستعمل هذا الماء المنفصل عن عضوها، فالنهي هنا ليس لأنه سُلِبَ منه الطهورية، ولكن للاستقذار أو للتعبد، فإذا قلنا فرضاً لصحة هذا الحديث، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذ الماء الذي استعملته ميمونة، واغتسل به، فبطل الاستدلال به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد استعمل الماء الذي بقي من استعمال ميمونة له.
والحديث عام في المتبقي من الماء وفي المستعمل، ولا يوجد دليل على الخصوصية، ومن زعم ذلك فعليه بالدليل، وأما بالنسبة للحديث الصحيح، (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يغتسل الجنب في الماء الدائم)، فنقول لأصحاب القول الأول: نحن نتفق معكم على هذا النهي، لكن لا نتفق معكم على توجيهكم لهذا النهي، بأن الماء سيصير مستعملاً بل لا يصير مستعملاً، ولو صار مستعملاً فلن تسلب الطهورية منه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن ذلك سداً للذريعة، حتى لا يأتي المكلف فينظر إليك، فيجدك قد وقعت أو غصت في هذا الماء، فيستقذر الماء فلا يستعمله، وأيضاً لا يوجد دليل صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تغتسل في الماء الدائم وأنت جنب؛ لأنه سيصير مستعملاً فيسلب طهوريته، بل إن الماء إذا وقع فيه أحد، ثم خرج منه، فإنه لم يتغير منه أحد أوصافه الثلاثة، فدل ذلك على أن هذا الماء باق على أصل خلقته، وهذا الرد عليهم من جهة الأثر.
والرد عليهم من جهة النظر: أنهم قاسوا الماء المستعمل في النجاسة على الماء المستعمل في الطهارة، فنقول: إن هذا القياس قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، وهذه قوادح في العلة، والأصل هنا لا يساوي الفرع في العلة، فلا يمكن أن تقيس؛ لأن الأصل لا يساوي الفرع؛ لعدم المطابقة بينهما فالماء الذي استعمل لإزالة النجاسة قد لاقى نجساً، أما الآخر فقد لاقى محلاً طاهراً.
وعند ذلك اختلف المحلان، فالمحل الأول نجس، والآخر طاهر، فلا يصح قياس المحل الطاهر على المحل النجس.
وأما الاستدلال بأن الصحابة لم يستخدموا هذا الماء، فنقول أيضاً: توجيهكم بعدم استخدام الصحابة في أسفارهم للماء المتبقي توجيه غير سديد، بل التوجيه الصحيح: أن لهذا الدليل توجيهان: التوجيه الأول: أن هذا الماء كان قليلاً، ولا يمكن جمعه؛ لأنه يتناثر على التراب، فلا يبقى منه ماء كثير يُمكن أن يُتطهر به.
فمثلاً: لو أن رجلاً في صحراء ومعه زجاجة ماء، فاستعمل نصف الزجاجة في الشرب، ثم أخذ الشطر الآخر، وقال: أتوضأ لأصلي، وبينما يتوضأ يتناثر ويتساقط الماء على الرمال فلا يمكن أن يجمعه ليستخدمه في طهارة أخر.
التوجيه الثاني: أنه للاستقذار، أي: استقذر هذا الماء لا أنه سلب منه الطهورية.
والخلاصة: أن الماء المستعمل في (طهارة الحدث) بقي على أصل خلقته، لم يتغير منه طعم أو لون أو رائحة، فينزل تحت عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الماء طهور لا ينجسه شيء)، ويصح استعماله أيضاً خلافاً للشافعية، لا تقذراً أو تعبداً كما قال المالكية.
والراجح في ذلك: أن الماء المستعمل لو بقي مدة طويلة، فله استعماله.