والثاني تأكيد الذم بما يشبه المدح عكس السابق أن يُستثنى من صفة مدح منفية عن الشيء صفة ذمّ بتقدير دخولها فيه كالسابق، كقولك: فلان لا خير فيه إلا أنه يُسيء إلى من أحسن إليه. إلا، لا خير فيه إلا، الأُذُن تنتظر ماذا؟ صفة مدح لكنه قال: إلا أنه يُسيء. زاد الطين بِلَّه، فجاء بصفة ذم، هذا يُسمَّى ماذا؟ يُسمَّى تأكيدًا للذم بما يُشبه المدح، بكيف أشبه المدح؟ لأنه جاء بصفة الذم منفية ثم جاء بأداة الاستثناء، والأصل الاستثناء أنه متصل، إذا سيُخْرِج شيئًا، لكنه ما أخرج وإنما زاده تأكيدًا. والتأكيد من جهة التعليق بالمحال لأن المعنى في قولك: فلان لا خير فيه .. إلى آخره إن كأنه الإساءة المذكورة خيرًا فأُثبتت أو أَثبت شيء منه على تقدير كونها منه، وكونها منه محال فإثبات شيء من الخيل محال، ومن جهة أن الأصل في الاستثناء الاتصال فذكر أداته قبل ذكر ما بعده يوهم إخراج شيء مما قبلها، فإذا وليها صفة ذمّ جاء التأكيد، والأمر واضح، (وَالْعَكْسِ)، والعكسِ عطف على تجنيس، والعكس بالخفض، وهو أن يُقَدّم في الكلام جزء ثُمَّ يؤخر، نحو عادات السادات، سادات العادات هذا مثاله المشهور، عادات السادات، السادات العادات {لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} ... [الممتحنة: 10] عكسه، يأتي بالعكس.
(وَالرُّجُوعِ) وهو العود إلى الكلام السابق بالنقض لنكتة لفائدة، نحو قوله:
قف بالديار التي لم يُعْفِهَا الْقِدَمُ ... بلى وغَيَّرَهَا الأرواح والدِّيَمُ
أخبر أولاً أن هذه الديار لم يُبْلِها تَقَادم الْعَهْدِ يعني قِفْ بالديار التي لم يعفها القدم، يعني لم يزلها القدم باقية كما هي، ثم قال: بلى، رجع نقض الحكم السابق، وغيرها الأرواح يعني الرياح، والدِّيَمُ يعني القطر من السماء، ثم نقض هذا الخبر بقوله: بلى وغيرها الأرواح. أي هبوبها، والدِّيم: أي القطر، والنكتة هنا إظهار التحيُّرِ كأنه أخبر أولاً بما لا تحقق له، ثم لما أفاق بعض إفاقة نقض الكلام السابق قائلاً: بل بلى عفاها القدم غير الأرواح والديم، إذًا يخبر أولاً ثم يأتي بما ينقضه آخرًا.
(وَالإِيهَامِ) ويسمى التورية: وهي أن يُذكر لفظ له معنيان قريب وبعيد، ويراد البعيد. يأتي بلفظ يُراد به قريب وبعيد، يعني يطلق على شيء قريب، ويطلق على بنفس الوقت على شيء بعيد، يطلقه المتكلم يظن المخاطب أنه أراد القريب وهو يريد البعيد، مما أنتما؟ «من ماء». أراد به قرية ماء أو تسمى ماء، السائل فَهِمَ أنه اسم قرية وأراد به المتكلم أنه من ماء مهين، وبهذا سميت بالإيهام لاشتمالها على معنى القريب أيضًا، واتفقت كتب البلاغة هنا إذا أرادوا أن يستدلوا على التورية بقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] {اسْتَوَى} يعني استولى، وهذا تحريف للنصوص وليس من الإيهام في شيء، بل هو من أحكم المحكم كما قال ابن القيم رحمه الله. فهذا المثال باطل من أصله، حتى السيوطي أورده في شرح ((عقود الجمان)).