إذًا هاتان الموضعان كمال الانقطاع، وشبه كمال الانقطاع، وهو المراد بقوله: (إِنْ نُزِّلَتْ) يعني الثانية من الأولى (كَالْعَارِيَةْ)، (فافْصِل).
إذًا هذه مواضع أربعة يجب فيها الفصل.
أو نزلت الجملة الثانية من الأولى كالعارية. العارية ما تعطيه غيرك على أن يعيده إياك، يقال: أعاره أعطاه إياه عارية. (كَالْعَارِيَةْ) قال الشارح هنا: بأن لم يقصد تشريك الثانية للأولى في الحكم. وهو داخل في مفهوم ما قد سبق، لكن ثَمَّ مثال مشهور عند البيانيين وهو جميل قوله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 14، 15] ما قال: والله يستهزئ بهم. فصل بماذا؟ لم يعطف {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على {إِنَّا مَعَكُمْ} لأن الاحتمال إما أن يُعْطَف على إذا خلوا والله يستهزئ بهم، أو إن يُعطف على قالوا: {إِنَّا مَعَكُمْ}، وكلا المعنيين العطف يُفسد المعنى، والله يستهزئ بهم إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم والله يستهزئ بهم لو عطف على {إِنَّا مَعَكُمْ} لصار من مقول المنافقين، أليس كذلك؟ وإذا عطفه على خلوا {وَإِذَا خَلَوْاْ} خلوا هذا مقيد، مقيد بماذا؟ بظرف بمعنى أن قولهم هذا إنما هو مقيد بالخلوة، إذًا الحال المقابل للخلوة انتفى مقولهم، أليس كذلك؟ لو عُطِفَ {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على خلوا {وَإِذَا خَلَوْاْ} حينئذٍ صار استهزاء الله سبحانه وتعالى بهم في حال خلوتهم لا مطلقًا، وهذا فسد المعنى. بل {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} مطلقًا دون أن يقيد بفعلهم هم، وإنما يكون على إطلاقه، فكلا المعنيين لو عُطِفَ {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} فَسَدَ. لم يعطف {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على {إِنَّا مَعَكُمْ} لماذا؟ لأنه ليس من مقولهم فلو عُطِفَ عليه لزم تشريكه في كونه مقول قالوا فيلزم أن يكون مقول قول المنافقين وليس كذلك {قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ}، {قَالُواْ} أي: المنافقون. إنا معكم والله يستهزئ بهم، هذا فيه تنافي.
أو كان للأولى حكم لم يقصد إعطائه للثانية فالفصل واجب [لئلا يلزم من الفصل التشريك] (?) لئلا يلزم من الوصل التشريك في ذلك الحكم نحو: {وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} .. الآية، لم يعطف {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على {قَالُواْ} لئلا يُشاركه في الاختصاص بالظرف المتقدم لأن قوله: ... {وَإِذَا خَلَوْاْ}. هذا ظرف، والظرف متعلق بقوله: {قَالُواْ} أليس كذلك؟ متى يقول قولهم؟ إذا خلوا، لو عطفه على قالوا: ليس على مدخول قالوا لصار متقيدًا بالظرف وهو لم يرد، لم يُعطف {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على {قَالُواْ} لئلا يشاركه في الاختصاص في الظرف المتقدم وهو قوله: {وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} لما مر أن تقديم المفعول ونحوه من الظرف وغيره يفيد الاختصاص فيلزم أن يكون استهزاء الله بهم مختص بحال خلوتهم إلى شياطينهم وليس كذلك.
فجميع ما مرّ قال الناظم فيه: (فافْصِل) أي وجوبًا. والفاء هنا واقعة في جواب الشرط. (فافْصِل) إذًا في المواضع الأربعة السابقة.