القسم الرابع: مسائل اختلف فيها أئمة الفقهاء -من أصحاب المذاهب الأربعة ومن قبلهم- ومن صاحبهم، فإذا اختلفوا في مسألة اختلافاً بيناً، أو اختلف من هو أجل من هؤلاء كلهم، وهم الصحابة، فهذه المسائل التي اختلف فيها الأكابر -مع اتفاق العصر واختلاف المصر- اختلافاً بيناً وترددوا فيها، حتى أن الإمام الواحد قد يُحكى عنه أكثر من قول في المسألة، فهذه المسائل ينبغي لطالب العلم أنه إذا رجح فيها أن لا يخفض ويرفع، إنما يرجح بقدر من حسن التأني والاختصار.
فمثلاً: الماء إذا كان دون القلتين وخالطته نجاسة ولم يظهر تغيره، هل يكون نجساً أو طاهراً؟
هذه مسألة اختلف فيها كبار الأئمة، حتى أن مالكاً تردد فيها، كذا أحمد، ونقل عن الشافعي التردد، فهذه مسألة اختلف العلماء فيها نظرياً اختلافاً بيناً.
فمثل هذه المسائل يرجح طالب العلم بحسب ما يظهر له من الأدلة، لكن لا ينبغي أن يبالغ ويغلط ويستطرد في تغليط أقوال السلف الأخرى والرد عليها.
ومن باب الأولى أن طالب العلم إذا خرج عن قول الجمهور، لظاهر دليل وجب عليه التزامه، فيكون خروجه مأذوناً فيه، ولكن لا يصح له أن يطعن في قول الجمهور.
وتعجب عندما تسمع بعض طلبة العلم يقرر ويقول: القول الأول قول الأئمة الأربعة وفلان، والقول الثاني قول ابن حزم، والراجح قول ابن حزم، وأما القول الأول فلا دليل عليه!
ولو أخذنا المسألة بالعقل: هل يمكن أن السواد الأعظم من السلف والجمهور -بما فيهم الأئمة الأربعة- يذهبون إلى قول وليس عليه دليل؟!
وهذا الأسلوب لا تجد أنه مستعمل في كلام العلماء أبداً أن قولاً من الأقوال التي عليها الجمهور من الأئمة، ثم يقال: هذا قول لا دليل عليه.
ومسألة ظهور الأدلة الفقهية، أحياناً تكون مشكلة، فهي ليست كالسيرة، فمثلاً: الحائض إذا طهرت وقت العصر، هل تصلي الظهر؟ هذه مسألة خلافية، وقد سئل الإمام أحمد عنها، فقال: "تصلي الظهر والعصر".
مع أنها لم تطهر إلا وقت العصر ولما سئل عنها أحمد قيل له: يا أبا عبد الله! من قال ذلك؟ قال: "عامة التابعين على هذا القول إلا الحسن ".
هنا السؤال: كيف أطبق عامة التابعين على هذا القول؟
أنت كطالب علم أو كباحث معاصر قد لا تجد نصاً مباشراً على هذا القول، ومن هنا لا يجوز لك أن تقول: هذا القول لا دليل عليه؛ لأنه يورد عليك سؤال: هذا السواد من الأئمة الذين هم أعظم منا إمامة وعلماً من أين تواردوا على هذا؟
وكونك تقول: إن لهم دليلاً لكنه مرجوح ..
لا بأس، لكن أن تقول: هذا قول لا دليل عليه ..
هذه جملة منكرة، لا يجوز أن توصف بها أقوال الجماهير من الأئمة.
ثم إن الأئمة أيضاً أخذوا فقه الشريعة استقراءً، فمثلاً: ابن عباس روى عنه مسلم في صحيحه، من رواية طاوس -وهو من أصحاب ابن عباس - عن ابن عباس أنه قال: "كان طلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر طلقة واحدة، فقال عمر: إن الناس استعجلوا في أمر لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم" من باب التعزير.
والسؤال هو: هل هناك نص من القرآن أو السنة يقول: إن طلاق الثلاث بلفظ واحد يكون ثلاثاً؟
الجواب: ليس هناك نص صريح.
قد يعجب طالب العلم اليوم من هذا! ولا عجب من ذلك إذا علم أن مسألة ظهور الأدلة الفقهية، ليست دائماً مسألة سهلة، كما عُوِّد عليها كثير من طلاب العلم اليوم، فقد يفهم الدليل بالاستقراء والاستنباط ونحو ذلك، مما كان يتميز به سلف الأمة.
ولسنا بصدد الترجيح؛ إنما نريد أن نبين طريقة فقه السالفين.
فذهب الجمهور بما فيهم الأئمة الأربعة، إلى أن طلاق الثلاث يعتبر ثلاثاً، وابن عباس يقول: [كان طلاق الثلاث على عهد رسول الله، وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر طلقة واحدة ...] حتى إن ابن رجب رحمه الله لشدة قوته في هذه المسألة يقول: "اعلم أنه لم يصح عن أحد من الصحابة أو التابعين أو الأئمة المتبوعين أنه جعل طلاق الثلاث واحدة".
فكأنه يميل إلى أن هذا القول مقارب للإجماع، وهو يقصد بذلك الرد على شيخ الإسلام ابن تيمية الذي انتصر لكون طلاق الثلاث واحدة.
ومن الخطأ القول: إن الأئمة تركوا قول ابن عباس وأخذوا بتعزير عمر؛ لأنه سيقال: كيف يأخذون بتعزير عمر ويتركون فعل عمر الأول! ومن باب أولى: كيف يتركون فعل أبي بكر؟ ومن باب أولى كيف يتركون سنة النبي صلى الله عليه وسلم؟!
العجب في هذا: أن الأئمة تركوا رواية ابن عباس مع أنها في صحيح مسلم.
إذاً: لا شك أنهم فهموا ما لم نفهم نحن لبعد عهدنا وزمننا.
مثال آخر: روى أبو داود وغيره عن ابن عباس في الحج أنه قال: "من ترك نسكاً فليهرق دماً" هل قال ابن عباس: هذه سنة رسول الله أو أبي بكر؟ لا، ومع ذلك تجد أن السواد من الأئمة -بما فيهم الأئمة الأربعة- أطبقوا على أن من ترك واجباً في الحج فعليه دم، حتى حكي الإجماع على هذا القول، ومستندهم: قول ابن عباس.
إذاً: ينبغي لطالب العلم أن يكون متفطناً لمسألة الدلائل، فلا يأتي لمسألة الطلاق مثلاً ويقول: قول الجمهور لا دليل عليه، ومخالف لما روى مسلم في الصحيح، وأيضاً قول ابن عباس في الحج، اجتهاد من الصحابي، والأصل براءة الذمة، وأن من ترك واجباً في الحج فليس عليه شيء ..
فهذا اختصار مخل للفقه وليس ضرورة أن نقول: إن الراجح أن طلاق الثلاث ثلاث، أو إن الراجح أن من ترك واجباً فعليه دم، يمكن أن تقول: إن من ترك واجب لا يلزمه دم، لكن بقدر من حسن التأتي، وعدم اختصار المسائل وإسقاط فقه المتقدمين رحمهم الله.