مسائل ذهب فيها جمهور السلف إلى قول وخالفهم فيها طائفة من السلف

القسم الثالث: مسائل ذهب إليها الجمهور من السلف، وذهب طائفة قليلة من السلف إلى خلاف هذا القول، وتكون المسألة عند التحقيق خلافية بين السلف أنفسهم، لكن جمهورهم على قول، والطائفة الثانية -وهم الأقل- على قول آخر.

فهذه المسائل لا يجب على طالب العلم أن يتبع قول الجمهور فيها، ولكن لا يعني هذا أن قول الجمهور يكون كقول غيرهم، وعلى هذا كثير من الأئمة: كـ ابن تيمية، وأبي عمر بن عبد البر، والشاطبي، وابن كثير، والذهبي، وغيرهم ممن علق مثل هذا الكلام، وأشد من هؤلاء كلهم ابن رجب رحمه الله.

ومحصل كلامهم: أن الجمهور من أئمة السلف -أي: من أئمة الفقهاء المتقدمين- إذا ذهبوا إلى قول، وقد اتفق عصرهم واختلف مصرهم ففي الجملة -أي: في الغالب- أن هذا القول هو الصواب، كما نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله".

فمثلاً: هناك أربعة أئمة يعدون أئمة الدنيا في زمانهم كما يقول ذلك ابن تيمية رحمه الله، وهم: الليث بن سعد في مصر، والأوزاعي في الشام، وسفيان الثوري في العراق وبلاد الري وما فوق العراق كبلاد فارس، والإمام مالك في الحجاز.

فإذا اتفق هؤلاء الأربعة على قول، وسار عليه السواد الأعظم من بعدهم، ففي الغالب أن هذا القول يكون هو الصواب.

وعلل شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك بتعليل نظري وهو شرعي أيضاً، قال: "لأنه يبعد أن الحكم الشرعي يخفى على جمهور السلف، ولا سيما إذا تعددت أمصارهم" ففرق بين أن يتوارد علماء العراق على قول، وبين أن يكون هذا التوارد مشتركاً بين العراقيين والحجازيين .. ؛ لأنه في الحالة الأولى: قد يقال: إن هذا مبني على سنة لم تبلغ أهل العراق، أو على سنة لم تبلغ أهل الحجاز أو مصر أو ما إلى ذلك، فأما إذا رأيت جمهور أئمة مصر والشام والحجاز والعراق ذهبوا إلى قول واستقروا عليه، فهذا القول -في الجملة- يكون هو الراجح.

ويمكن أن يقال: إن هذا من طرق الترجيح لطالب العلم، ولا سيما في ابتداء طلبه للعلم، في الزمن الذي لا يستطيع النظر بدقة في الأدلة، ولو نظر في الأدلة لربما اغتر ببعض الظواهر.

مثلاً: لو قلت لطالب علم مبتدئ: ذهب قوم إلى أن غسل الجمعة واجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) أخرجه البخاري ومسلم، والقول الثاني: أن الغسل مستحب؛ لربما رجح القول الأول؛ لكونه يرى أن هذا هو ظاهر النص.

إذاً ..

طالب العلم ينبغي أن يكون عنده إدراك، ولا يقال: إن قول الجمهور ملزم، بل يقال: إنه يستأنس به في الجملة، ويكون مائلاً إلى الصحة، وهذا يعني أن طالب العلم لا يتجاوز قول الجماهير من السلف إذا انضبط إلا إذا بان له وجه من كتاب الله وسنة نبيه خلافه فلا شك أن النصوص مقدمة على أقوال الرجال ولو كانوا جمعاً غفيراً.

والمراد بالجمهور: أي جمهور السلف، وأما جمهور الفقهاء من أصحاب المذاهب الأربعة كجمهور الحنفية، أو جمهور الشافعية، أو جمهور المالكية، أو جمهور الحنابلة، فهؤلاء ليسوا بالضرورة يمثلون الجمهور من السلف، بل قد تكون هناك أقوال شاعت عند الفقهاء المتأخرين، وهي عند المتقدمين على خلاف ما شاعت عند المتأخرين، وهذا وإن كان قليلاً إلا أن له وجوداً.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015