قال المؤلف رحمه الله تعالى: [من قرأه فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات، له أول وآخر، وأجزاء وأبعاض، متلو بالألسنة، محفوظ في الصدور، مسموع بالآذان، مكتوب في المصاحف، فيه محكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، وخاص وعام، وأمر ونهي].
في النسخة التي أمامي تعليق للمعلق في قوله: (من قرأه فأعربه؛ فله بكل حرف عشر حسنات)، ذكر المعلق أن هذا مأخوذ من حديث ضعيف، وهذا كلام فيه إجمال كان ينبغي أن يفصل فيه، أما القول بأن من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات مطلقاً فهذا ثابت في الأحاديث الصحيحة لا شك فيه، لكن يظهر أن قول المعلق هنا ينصرف إلى الإعراب: من قرأه فأعربه، ومعنى أعربه: أقامه على العربية لم يلحن به، والذي ذكره في الهامش يقول: (أعربوا القرآن؛ فإن من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات، وكفارة عشر سيئات، ورفع عشر درجات إلخ)، وذكر أن هذا الحديث ضعيف.
نعم، هذا الحديث بهذا اللفظ ضعيف، لكن الأحاديث الواردة في أن من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات ثابتة، بل ورد ما فيه أكثر من ذلك، وأن الله يضاعف لمن يشاء، أما الضعف فينصرف إلى اللفظ الذي يتعلق بإعراب القرآن؛ فينبغي للإنسان أن يتنبه لذلك، لأن من لا يعرف السنة أو لا يعرف الأحاديث يفهم أن الحديث الذي فيه أجر عشر حسنات لمن قرأ القرآن لكل حرف لا يصح، وهذا غير وارد، بل الوارد عكس ذلك.
نعم.
(له أول وآخر)، بمعنى أن كلام الله عز وجل له بدايات في نزوله ونهاية، وكذلك كل سورة لها أول وآخر، وكل آية لها أول وآخر، وكل كلمة لها أول وآخر، والقرآن له أول وآخر، سواء من حيث النزول، أو من حيث ترتيب السور، أو من حيث واقعه في المصحف وكتابته.
(وأجزاء وأبعاض، متلو بالألسنة، محفوظ في الصدور، مسموع بالآذان مكتوب في المصاحف)؛ كل هذا إشارة إلى الرد على المتكلمين الذين تأثروا بمقولة الجهمية والمعتزلة الذين زعموا أن كلام الله مخلوق، فالمتكلمون ما قالوا: إن القرآن مخلوق، لكنهم قالوا بقول يؤدي باللزوم إلى مثل قول الجهمية والمعتزلة.
فالمتكلمون الأشاعرة والماتريدية أو طوائف منهم خاصة غير أهل الحديث منهم زعموا أن كلام الله عز وجل معنى قائم بنفس الله عز وجل، لا يمكن أن يكون فيه حروف ولا أصوات، وأن هذا المعنى عبر عنه جبريل، أو عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم، أو عبر عنه المعبرون بحسب ما أذن الله عز وجل لهم، فالقرآن من حيث هو معنى كلام الله، لكن من حيث هو حروف وأصوات، وبدايات ونهايات، وجمل وآيات، يزعمون أنه كلام المخلوقين؛ وهذا مرده قول المعتزلة والجهمية الذي أنكروا أن يكون القرآن كلام الله، لكنه قول مؤدب أرادوا أن لا يصادموا به النصوص، فزعموا أن كلام الله هو الكلام النفسي، وأول من قال هذا الكلام ممن ينتسبون إلى السنة ابن كلاب، وتابعه أبو الحسن الأشعري رحمه الله في أول أمره أو في مذهبه الأوسط قبل أن ينتقل لمذهب أهل السنة والجماعة جملة وتفصيلاً.
ثم تابع أبا الحسن الأشعري تلاميذه الكبار من بعده، ثم توسعوا في هذا القول حتى قالوا بهذه اللوازم التي لم يقل بها أسلافهم.
فقال: إن أصل كلام الله معنىً واحد، لما عبر عنه بالعبرية صار توراة، ولما عبر عنه بالعربية صار قرآناً، وهكذا، ففصلوا كلام الله بعضه عن بعض، فجعلوا أصل الكلام معنى، وحروفه وأصواته، وأوله وآخره، وأجزاؤه وأبعاضه، والمتلو منه كله زعموا أنه من فعل البشر.
فلذلك أنكروا أن يكون لكلام الله أول وآخر، سواء كلام الله جملة، أو كلامه بالقرآن.
كما أنهم أنكروا أن يكون لكلام الله أجزاء وأبعاضاً، كما أنكروا أن يكون هذا المتلو بالألسنة هو كلام الله، أو هذا المحفوظ في الصدور هو كلام الله، أو الذي نسمعه هو كلام الله، أو أن هذا المكتوب في المصاحف هو كلام الله؛ ولذلك لبسوا على الناس، فقالوا: لا يعقل أن يكون هذا الذي في المصحف كلام الله، كيف يعقل وهو بين أيدينا وهو حبر أسود وورق نراه ونلمسه.
السلف يفرقون بين الكلام الذي هو كلام الله عز وجل، المكتوب المقروء والمتلو، وبين المادة التي كتب بها، والأوراق التي كتب عليها، والألسنة التي تلفظت، والصدور التي حفظت، لا شك أن الصدور من خلق الله، وأن الألسنة من خلق الله، وأن الأصوات من خلق الله، وأن الحبر من خلق الله، وأن الأوراق من خلق الله، لكن ليس هذا هو كلام الله، لو جئنا بهذه الأمور لوحدها ما عرفنا أنها قرآن، لكن لما كتبنا فيها كلام الله عز وجل عرفنا أن هذا كلامه، وأن المادة المخلوقة ليست هي كلام الله، إنما كلام الله هو ما نفهمه وما نتلوه وما نسمعه، فمن هنا يجب أن نفرق بين المتلو والمقروء والمكتوب، وبين المادة والوسائل التي كتب فيها وتلونا بها.
فالوسائل والمادة لا شك أنها مخلوقة، أما المتلو والمقروء المسموع المحفوظ في الصدور فهو كلام الله عز وجل، لكنهم لبسوا على الناس في ذلك فوقع في مذاهبهم بعض من وقع من جهلة الناس وقليلي العلم وأصحاب الأهواء.