مراتب التأويل وأسبابه وعواقبه

قال المصنف رحمه الله: [اتباعاً لطريق الراسخين في العلم الذين أثنى الله عليهم في كتابه المبين بقوله سبحانه وتعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا)) [آل عمران:7].

وقال في ذم مبتغي التأويل لمتشابه تنزيله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] فجعل ابتغاء التأويل علامة على الزيغ وقرنه بابتغاء الفتنة في الذم، ثم حجبهم عما أمّلوه وقطع أطماعهم عما قصدوه بقوله سبحانه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]].

في هذا الكلام فائدة عظيمة أشار إليها الشيخ تتعلق بالتأويل وبأسبابه وبعواقبه.

أما ما يتعلق بالتأويل فإن الله عز وجل ذكر التأويل هنا على سبيل الذم، ووصف أصحابه بأنهم أهل زيغ، والزيغ هنا على درجات، فإن كان التأويل تأويل تعطيل وإنكار وجحد كتأويل غلاة الجهمية فهو كفر بإجماع السلف، وإن كان التأويل تأويل تحريف وعدول عن ألفاظ كلام الله عز وجل ومعانيها المباشرة إلى معان أخرى، فهذا يتراوح بين الكفر والبدعة والخطأ بحسب نية قائله.

الأول: لا يحتمل الخطأ ولا يحتمل أن يكون بدعة إلا بدعة الكفر.

الثاني: درجات، فمنه ما يكون كفر كتأويل كثير من المعتزلة الذين أصروا على نفي معاني أسماء الله وصفاته.

ومنه ما هو ضلالة وبدعة كتأويل المتكلمين الذين أُقيمت عليهم الحجة.

ومنه ما هو خطأ كتأويل بعض أئمة السنة الذين اشتبه عليهم الأمر.

هذا ما يتعلق بالتأويل، أما ما يتعلق بسبب التأويل فقد أشار الله عز وجل إلى أهم أسباب التأويل، وهي: ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله إما أحد الأمرين أو كلاهما، قد يكون بعض الناس قصده بالتأويل الفتنة فعلاً كالجهمية وغلاة المعتزلة والزنادقة الذين بدءوا التأويل على المسلمين كالرافضة والباطنية والفلاسفة وغلاة المتكلمين هؤلاء لا شك أنهم ممن يبتغي الفتنة، فهم ما بين زنديق كافر أصلاً يدّعي الإسلام ويريد أن يحرف الأمة ويضلها، وما بين إنسان يحب الشهرة ويحب الارتقاء ولو على حساب العقيدة، وما بين ضال يريد أن يضل الناس معه، وما بين صاحب هوى إلى آخره فهؤلاء صنف واحد.

ومنهم من يبتغي التأويل بمعنى أنه توهم أن التأويل ضروري، ويظن أنه لا يليق أن يوصف الله عز وجل بهذه الأسماء والصفات المباشرة، وأن الله يعني أمراً آخر تعبدنا بالبحث عنه، وهذه شبهة المتكلمين الذين ما كفّرهم السلف لكنهم بدّعوهم كمتكلمي الأشاعرة والماتريدية؛ فإنهم لا يبتغون الفتنة أصلاً في قصدهم والله أعلم، إنما يبتغون التأويل، يعني قصدوا التأويل إما تأثراً بالفلسفة والعقليات وهي تجر أصحابها إلى ويلات، وإما زعماً منهم أن ظاهر الألفاظ في الكتاب والسنة يقتضي المشابهة فأرادوا الخروج عن هذه الشبهة، وإما وإما إلى آخره من ابتغاء التأويل، ومنهم من يبتغي الأمرين، وهم غلاة المؤولة ما بين فلاسفة وما بين زنادقة، يبتغي الفتنة والتأويل جميعاً.

وعلى أي حال فإن الوقوع في التأويل في صفات الله وأسمائه وأفعاله من علامات الزيغ، سواء كان هذا الزيغ كفراً أو ضلالة أو بدعة أو خطأ.

الفائدة الثانية ما يتعلق بقوله: (ثم حجبهم عما أمّلوه)، فمن تأمل تاريخ المؤولة يجد أنهم قُطعوا عن مقاصدهم ورد الله كيدهم في نحورهم، سواء منهم من كان يقصد الفتنة في الإسلام أو من ضل عن حسن نية لكنه لا يصل إلى نتيجة إلا بالرجوع إلى الحق، أما الضالون الذين أرادوا الفتنة والتأويل فإنهم ما وصلوا بحمد الله إلى أن يؤثروا في عقيدة المسلمين، وهيأ الله لهم من أئمة الإسلام من تصدى لهم وكشف أساليبهم ووسائلهم وبين فضائحهم، وانجلى الأمر للأمة، وهلك من هلك عن بينة نسأل الله العافية، وحي من حي عن بينة نسأل الله أن يثبتنا على القول الثابت في الدنيا والآخرة.

النوع الآخر ممن حجبوا عما أمّلوه هم من لم يكونوا أهل كفر وضلالة ولكنهم ممن استهوتهم الكلاميات والعقليات من المتكلمين، فإنهم ظنوا أنهم بهذا الأسلوب بأسلوب التأويل سيصلون إلى نتيجة تنزيه الله عز وجل، لكن ما وصل واحد منهم إلى نتيجة، بل كل واحد منهم يُعلن الإفلاس خاصة الكبار الذين بُني على جهودهم علم الكلام المنحرف، فكلهم وصلوا إلى القناعة بأن أسلوبهم خطأ وأعلنوا ذلك، ولنأخذ نماذج من ذلك.

أبو الحسن الأشعري رحمه الله ولج علم الكلام وعايش المعتزلة ثم وجد أن هذا طريق مسدود لا يثبت تنزيهاً لله عز وجل، وأنه ليس هناك أفضل في تنزيه الله من الكتاب والسنة ومنهج السلف، ورجع إلى ذلك وصار حرباً على المؤولة حتى قال أئمة السنة: إنه الرجل الثاني في الحرب على المتكلمين والجهمية والمعتزلة بعد الإمام أحمد.

إذاً إمام المؤولة رجع عن التأويل وأوصى كل من جاء بعده بأن يتركوه، ثم جاء بعده من الأئمة كـ الشهرستاني

طور بواسطة نورين ميديا © 2015