يحتج بالقدر على المصائب، ويحتج بالقدر على المعائب بعد التوبة من المعائب، دليل ذلك إجماله في حديث احتجاج موسى وآدم عليهما السلام، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (قال: موسى أنت آدم خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه أكلت من الشجرة وأخرجتنا ونفسك من الجنة، فقال آدم عليه السلام: أنت موسى اصطفاك الله برسالته وكلامه، تلومني على أمر قد قدره الله علي، أو قد كتبه الله علي قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، -قال النبي صلى الله عليه وسلم منتصراً لآدم- فحج آدم موسى).
فآدم: فاعل، وموسى: مفعول به منصوب، لكن منع من ظهور الفتحة عليه التعذر، ومعناه: الاستحالة أي: أن الألف لا تقبل ضمة ولا فتحة ولا كسرة، لكن الياء تقبل الفتحة، ويمكن أن تقبل الضمة، لكن بثقل، والتعذر معناه: الاستحالة فنقول: حج آدمُ موسى، يعني: آدم كانت معه الحجة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
فيا ترى! أين هذه الحجة؟ إن آدم احتج بالقدر وقال: قدر الله علي ذلك، وهذه الحجة اختلف العلماء فيها، فقال بعضهم: لأن موسى عير آدم بالذنب وقد تاب منه، فكان له الحق أن يحتج بالقدر بعد التوبة منه، وهذا الكلام وإن كان جيداً في مضمونه -بأن الإنسان إذا تاب من الذنب فله أن يحتج بالقدر- لكنه خطأ فاحش في حق موسى عليه السلام، ولذلك هذا التأويل لا نقبله؛ لأن موسى أعلم أهل الأرض في زمانه، وأتقى الناس لله جل في علاه ولن يعير أحداً بذنب قد تاب منه، وهو يعلم بأن (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)، كما حدث واقعاً معه، فلما تاب بنو إسرائيل تاب الله عليهم، بل ورد عليهم أرواحهم.
فإن قيل: وهل موسى يعلم بأن آدم تاب من ذنبه؟ ف
صلى الله عليه وسلم نعم.
يعلم موسى ذلك؛ لأن توبته موجودة في التوراة أن الله كتب علي ذلك قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، فإن كان هذا مكتوباً في التوراة فيكتب معه التوبة؛ لأن الله كريم وقد أكرم آدم بالتوبة وأظهر جمال فعل آدم بهذه التوبة، فتاب آدم فتاب الله عليه، فلا يمكن أن يتصور ويظن في موسى أن يعير آدم بذنب قد تاب منه فهذا القول لا نقبله، ولكن نقبل مضمونه بأن الإنسان إذا وقع في المعصية ثم تاب منها، ثم عير بهذا الذنب فله أن يقول: قد قدر الله علي هذا الذنب من خمسين ألف سنة؛ لأنه لا يرد القدر بالشرع، لكنه تاب ولما علم أنه تاب له أن يحتج بالقدر.
التأويل الثاني وهو الصحيح الراجح: أن موسى عليه السلام عاتب آدم على المصيبة الواقعة بسبب الذنب؛ لأنه قال: (أخرجتنا ونفسك من الجنة)، فهذه المعاتبة على المصيبة وليست على الذنب؛ لأن موسى أرفع من أن يعير أحداً بذنب قد تاب منه، فعاتب موسى آدم على المصيبة وآدم احتج بالقدر؛ لأنه يجوز أن نحتج بالقدر على المصائب، وهذه مصيبة نزلت على آدم بسبب أكله من الشجرة والمصيبة هي الخروج من الجنة؛ فعاتبه موسى بقوله: (أخرجتنا ونفسك من الجنة، فقال آدم محتجاً عليه بالقدر: أنت رأيت ذلك مكتوباً علي قبل أن يخلق الله الخلق بخمسين ألف سنة).
وهذا هو التأويل الصحيح، ونخلص من ذلك بأن الإنسان له أن يحتج بالقدر على المصائب وعلى المعائب إن تاب من هذه المعائب، هذا هو المجمل في مسألة القدر.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.