بعد أن قرر المؤلف رحمه الله في الفصل السابق إثبات صفة الكلام لله جل وعلا من الكتاب والسنة والآثار، انتقل إلى الحديث عن القرآن الذي وقع الخلاف فيه بين طوائف من أهل الإسلام؛ فأنكروا أن يكون القرآن كلام الله جل وعلا، كما كان عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين وأئمة الدين ومن بعدهم.
يقول رحمه الله: (ومن كلام الله سبحانه القرآن العظيم) : (من) هنا للتبعيض؛ لأن كلام الله جل وعلا لا يقتصر على القرآن، كما قال الله جل وعلا: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف:109] ؛ فكلام الله جل وعلا كثير متنوع، منه ما يتعلق بالخلق، ومنه ما يتعلق بالشرع، فكلامه الشرعي: هو الذي أوحاه إلى رسله، وكلامه الكوني الخلقي هو الذي يوجد به ما يوجد ويحدث به ما يحدث من أمره سبحانه وبحمده؛ وبه يدبر أمر مملكته جل وعلا.
قوله رحمه الله: (ومن كلام الله) .
أي: من كلامه الشرعي الذي تلكم به فيما يتعلق بالشرائع والأديان القرآن العظيم، فهو كتاب الله الحكيم الذي أنزله على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو حجة الله على هذه الأمة، وهو أعظم آيات الأنبياء، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح الإمام مسلم وغيره: (ما من نبي إلا وأوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي) ، يعني: كان أعظم وأجل ما أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم من الآيات: القرآن؛ ولذلك لم يذكر غيره صلى الله عليه وسلم، ثم بين عظيم هذا الذي خص به صلى الله عليه وسلم؛ فقال: (فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً) ، لعظيم بركة القرآن وأثره؛ لأنه ليست آية محصورة في زمان أو مكان بل هي آية ممتدة في كل زمان ومكان، فهي آية باقية، ولذا فإن تأثيره وأثره ما زال إلى الآن من أعظم ما يكون.
والمراد: أن هذا القرآن كلام الله جل وعلا، ما الدليل على هذا؟ الأدلة على هذا تفوق الحصر؛ فإن الله سبحانه وتعالى أخبر بأنه أنزل القرآن من لدنه جل وعلا، وأنه تكلم به، ووصفه بأنه كلامه، كما قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ، ولا خلاف بين أهل التفسير أن المراد بكلام الله في الآية القرآن، فالأدلة من الكتاب والسنة على أن القرآن كلام الله أكثر من أن تحصر، وهذا مما أجمع عليه السلف، وهو معلوم من الدين بالضرورة.
ولذلك من جحد أن القرآن كلام الله فهو كافر، وقد تلكم بهذا سلف الأمة، فقالوا: من جحد أن القرآن كلام الله كفر، وذلك لأن الأدلة على هذا من أوضح وأكثر ما يكون، ولذلك قالوا: مما يعلم من الدين بالضرورة أن القرآن كلام الله، أي: لا يحتاج الإنسان إلى أن يصل إلى هذه النتيجة من خلال التفكير والنظر والتدبر وإعادة الفكر في النصوص حتى يستنتج ويتوصل إلى أن القرآن كلام الله، بل إنه يصل إلى ذلك بأدنى نظر في كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وآثار الصحابة والتابعين وسلف الأمة الصالحين، وكون القرآن من كلام الله من أظهر ما يكون.