القرآن بدأ من الله وإليه يعود

قوله رحمه الله: (منه بدأ) ، هذه اللفظة جاءت عن جماعة من السلف الصالح، ومعناها: أنه هو المتكلم به ولم يبتدئ من غيره، فهو المتكلم بالقرآن سبحانه وبحمده، فـ (من) هنا لابتداء الغاية، والضمير يعود إلى الله جل وعلا، فهو الذي بدأه وتكلم به، لم يكن من غيره ولم يبدأ من غيره؛ لأن الجهمية يقولون: كلام الله، لكنه بدأ من غيره، ففي قصة موسى يقولون: بدأ من الشجرة، والشجرة هي التي تكلمت، أو من ملك، فهو الذي تكلم، وهم بهذا كاذبون مكذبون للقرآن الكريم، مكذبون لما عليه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعون.

دليل ذلك الآيات الكثيرة في كلام الله جل وعلا، التي تخبر بأن القرآن تكلم به الرب، من ذلك قول الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل:6] ؛ فـ (من) هنا لابتداء الغاية، ومنه قول الله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة:13] ، وكذلك قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1] ، ومنه قوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر:1] ؛ فـ (من) في هذه الآيات كلها وما يشابهها تفيد ابتداء الغاية، وهذا دليل قول المؤلف رحمه الله: (منه بدأ) .

ويعبر بعض السلف عن هذه الكلمة بقولهم: (منه خرج) ، ويريدون بهذا أن الكلام خرج ابتداء من الله جل وعلا، وقد جاء ذلك في بعض الأحاديث، ففي جامع الترمذي من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه) ، قال أبو النضر -أحد رواة الحديث-: يعني القرآن، وهذا الحديث قال عنه الترمذي: غريب، وقد جاء ما يعضده من طريق جبير بن نفير مرسلاً في مسند الإمام أحمد، وذكره الترمذي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم لن ترجعوا إلى الله بأفضل مما خرج منه) ، وقد تكلم بهذا السلف، ومرادهم بهذه العبارة: أن الكلام من الله ابتدأ ولم يخلقه في غيره كما تقول المعتزلة والجهمية، ومرادهم أيضاً من هذه العبارة: أن الكلام صفة الله عز وجل، فالمتكلم إذا خرج منه الكلام هل يخرج مخلوقاً أو صفة له؟ صفة له؛ ولهذا قال جل وعلا: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:5] ، هل يخرج الكلام الذي منهم خلق وعين أم أن الكلام صفة له وإن تكلم به وظهر منه؟! الكلام صفة له، وإن ظهر منه وخرج منه، لكنه يكون على وجه الصفة.

قال رحمه الله: (وإليه يعود) ، أي: إلى الله جل وعلا يعود القرآن، وإليه يرجع، وقد جاء ذلك في عدة آثار، منها عن ابن مسعود رضي الله عنه: قال صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن ينزع القرآن منكم، قالوا: يا رسول الله! كيف ينزع وقد أثبته الله في قلوبنا، وأثبتناه في كتبنا، فقال: يسرى عليه في ليلة، فلا يبقى في الصدور منه كلمه، ولا في الصحف منه آية، ويصبح الناس منه فقراء) ، أي: ليس معهم منه شيء، وهذا معنى ما ذكره السلف رحمهم الله من قولهم: (وإليه يرجع) ، فالقرآن يرجع إلى الله عز وجل، ولكن بعدما يتعطل العمل به ولا ينتفع الناس منه؛ وذلك في آخر الزمان، وهذا لعظيم مكانة القرآن عند الرب جل وعلا، فكما أن البيت يرفع وهو القبلة، فكذلك القرآن يرفع وهو صفة الله عز وجل، لأن الناس يعرضون عنه، فإذا أعرضوا عنه رفعه الله عز وجل لعدم انتفاع الناس به.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015