والكلام الذي يثبته أهل السنة والجماعة لله عز وجل كلام قديم، بمعنى أنه كلام لا أول له، فليس الكلام صفة حادثة بعد أن لم تكن، وهذا معنى كلام المؤلف رحمه الله: إنه متكلم بكلام قديم.
لكن هل هذا الكلام حادث الأنواع، أي: متجدد، أم أنه كلام تكلم به ثم فرغ منه؟
صلى الله عليه وسلم أنه كلام متجدد، ولذلك فهو بهذا الاعتبار من صفات الأفعال، فلما نادى الله عز وجل آدم وحواء بعدما وقع منهما ما وقع من المخالفة، فهو نداء حادث في وقته وليس نداء متقدماً في الأزل.
ولما أنزل الله القرآن على رسوله، فإنه تكلم به وقت نزوله، فالله جل وعلا يتكلم بكلامه متى شاء وكيف شاء، ولكن هذه الصفة لم يزل متصفاً بها، أي: أن الكلام ليس حادثاً بعد أن لم يكن، هذا معنى قول المؤلف رحمه الله: (أنه متكلم بكلام قديم) .
قال رحمه الله: (يسمعه منه) ، أي: يسمع كلامه منه جل وعلا لا من غيره، (من شاء من خلقه) ، وهذا السماع سماع مباشرة لا بواسطة؛ ولذلك قال: (سمعه موسى عليه السلام منه) ، أي: من الله جل وعلا (من غير واسطة) ، فلم يكن بين الله وموسى عليه السلام واسطة في سماع الكلام، بل سمعه مباشرة، وهذا لا يختص بموسى عليه السلام من كل وجه، أعني أن أصل سماع الكلام مباشرة ليس خاصاً بموسى، بل كلم الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم مباشرة في ليلة الإسراء، بل كلم بعض أفراد هذه الأمة بعد موته كما في حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (إن الله جل وعلا قد كلم أباك كفاحاً) أي: من غير واسطة، وذلك بعد استشهاده رضي الله عنه في غزوة أحد.
وأما في الآخرة فإنه يكلم كل أحد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في الصحيحين: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان) ، والترجمان: هو المفسر الذي يكشف عن معنى الكلام، بل سيكلمه مباشرة بدون واسطة، لكن ما جرى لموسى عليه السلام من الكلام في رسالته أمر زائد على ما جرى للأنبياء، ولذلك يوصف موسى عليه السلام بأنه كليم الرحمن، ولما يأتي الناس -كما في حديث أبي سعيد وغيره- في المحشر إلى موسى يقولون له: أنت الذي كلمك الله، وخط لك التوراة بيده.
فذكروا ما اختص به دون غيره، وإذا نظرت إلى ذكر الله عز وجل للرسل، تجد أن ما اختص الله به موسى مخالف لهم جميعاً، انظر إلى قول الله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء:163] وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء:163] ثم ذكر الرسل: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً * وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء:163-164] ثم ذكر موسى مفرداً فقال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] ، فدل هذا على أن نصيب موسى من تكليم الله له مخالف لما تقدم حتى للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن ما اختص الله به موسى من صفة التكليم مخالف لغيره، فدل ذلك على أن نصيب موسى من هذه الصفة لست لغيره من الرسل.
ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (سمعه موسى عليه السلام منه من غير واسطة) ، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن نصيب موسى في هذه الفضيلة وفي هذه الصفة لم يشاركه فيها أحد، ودليل ذلك من القرآن واضح في آيات النساء: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء:163] وذكر جملة من الأنبياء، ثم بعد ذلك قال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] ولم يقل فقط: (وكلم الله موسى) ، بل أكد ذلك بقوله: (تكليماً) فدل ذلك على أن حظه ونصيبه من التكليم الذي جرى له عليه السلام مخالف للرسل، وهذا هو السبب في كونه عليه السلام يوصف بأنه كليم الرحمن، وأن الناس يقولون له يوم المحشر: أنت الذي كتب الله لك التوراة بيده، وكلمك بنفسه.