ثم قال رحمه الله: وقال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى:51] ، فذكر الله عز وجل في هذه الآية مراتب الوحي، وجعلها ثلاث مراتب.
المرتبة الأولى: الإلهام.
المرتبة الثانية: التكليم المباشر.
المرتبة الثالثة: التكليم بواسطة، فقوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً} [الشورى:51] هذه هي المرتبة الأولى، وقوله: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى:51] هذه المرتبة الثانية، وهي التي حصلت لموسى عليه السلام، وقوله: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:51] وهذه المرتبة الثالثة والتي يشترك فيها جميع الرسل.
فالآية دالة على أن الله جل وعلا يتكلم وأن كلامه جل وعلا أنواع، وهذه الآية احتج بها أهل البدعة على أن كلام الله معنى، ولا يلزم أن يكون كلام الله باللفظ، حيث قالوا: إنكم تقولون: إن من مراتب التكليم: الوحي؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً} [الشورى:51] أي: إلهاماً، والإلهام إعلام سريع على وجه الخفاء؛ لأن الوحي في لغة العرب هو الإعلام السريع الخفي، وهذا لا يختص الرسل، بل يكون لكل من شاء الله أن يلهمه، كما قال الله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتاً} [النحل:68] ، فأخبر بإيحائه إلى النحل، ومنه قول الله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} [القصص:7] ، مع أنها ليست بنبية ولا رسولة، فهذا الوحي هو الإلهام، لكن هل هذا كلام؟
صلى الله عليه وسلم ليس بكلام عند الإطلاق، إنما الكلام في لغة العرب عند الإطلاق لابد فيه من ألفاظ، يقول ابن مالك: كلامنا لفظ مفيد كاستقم فالكلام لا يصح أن يوصف بأنه كلام عند الإطلاق إلا إذا توفر فيه وصفان: الوصف الأول: اللفظ، الوصف الثاني: إفادة المعنى، ولذلك يقول: كلامنا-أي: كلام العرب-لفظ مفيد فاستقم فلابد أن يكون لفظاً، ولابد أن يكون مفيداً لمعنى، وإلا فلا يوصف بأنه كلام، والمراد: أن احتجاجهم بهذه الآية ليس في محله؛ لأن الله جل وعلا لم يذكر أقسام الكلام عند الإطلاق، وإنما ذكر أقسام الوحي.
ومن الوحي ما يكون إلهاماً، وهذا لا إشكال فيه، لكنه لا يسمى كلاماً، وإنما الكلام ما تلفظ به صاحبه.