يقول رحمه الله في آخر ما ذكر في هذا الفصل: [سئل الإمام مالك بن أنس رحمه الله، فقيل: يا أبا عبد الله! {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟] : هذه القصة مشهورة عن الإمام مالك رحمه الله تناقلها العلماء، فإنه سأله رجل عن قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟ وكان الإمام مالك رحمه الله يحذر من هذا السؤال، فسكت رحمه الله سكوتاً طويلاً كما ذكر الذهبي وغيره، حتى علته الرحضاء، أي: حتى علاه العرق من شدة ما اعتراه رحمه الله من غرابة هذا السؤال وعظمه، فوفق رحمه الله إلى جواب مسدد فقال: (الاستواء غير مجهول) ، وفي بعض الروايات: الاستواء معلوم، والمعنى واحد، فغير المجهول هو المعلوم، أي: أن الاستواء لا يجهل في لسان العرب، فيدركه من له فهم بلغة العرب، هذا معنى قوله رحمه الله: الاستواء معلوم أو الاستواء غير مجهول.
ثم قال: (والكيف غير معلوم) ، أي: كيفية هذا الخبر لا سبيل إلى علمها، لأن الله جل وعلا لم يبين لنا كيفية استوائه، فليس عندنا خبر من الله جل وعلا كيف استوى، لكن عندنا منه خبر أنه استوى، فالواجب أن نقف حيث وقف النص، فنثبت استواء الله جل وعلا على عرشه دون أن نتطرق إلى ذلك بطلب الكيفية، فإن الكيفية لا سبيل إلى تحصيلها ولا إلى إدراكها، قال الله جل وعلا، {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] وهذا دليل على أن الكيفيات لا سبيل إلى تحصيلها، وأن الكيف مجهول غير معلوم.
فقوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} [آل عمران:7] معناه: أن حقيقته وكنه خبره وما يئول إليه الخبر لا يعلمه إلا الله جل وعلا، وهذا معنى قول مالك رحمه الله تعالى: (والكيف غير معقول) أي: لا سبيل إلى عقله وإدراكه؛ لأن العلم بالكيفيات فرع عن العلم بالذات، وليس لنا علم بكيفية الذات حتى نعرف ونعلم كيف صفاته سبحانه وتعالى.
ثم قال رحمه الله: (والإيمان به واجب) أي: الإقرار المستلزم للإذعان والقبول، والذي يحصل به طمأنينة القلب وسكونه إلى خبر الله وخبر رسوله في هذه الصفة وفي غيرها واجب، فلا يسوغ لأحد أن ينكر الاستواء لكونه لم يعقل كيفيته، بل الواجب على المؤمن أن يقر بالاستواء الذي أخبر الله به عن نفسه، أما الذي يتعلق بالكيفية فأمرها إلى الله؛ لا سبيل إلى إدراكها ولا إلى العلم بها.
والإيمان به، أي: بالاستواء الذي أخبر به في كتابه واجب.
(والسؤال عنه بدعة) السؤال عن كيفية الاستواء وعن كيفية سائر الصفات بدعة، أي: محدث في الدين، وإذا كان بدعة فإن كل بدعة ضلالة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) ، فالواجب الكف عن هذا، ولو كان خيراً لسبقنا إليه سلف الأمة.
ثم أمر بالرجل فأخرج من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أحدثه، وفيما ذكره الذهبي رحمه الله من هذه القصة، أن الإمام مالك رحمه الله قال لهذا الرجل: (وإني لأظنك ضالاً، أخرجوه) فلما أخرجوه نادى الرجل الإمام مالك رحمه الله قال: يا أبا عبد الله! لقد سألت عن هذا أهل الكوفة والبصرة والعراق، فلم أجد أحداً وفق إلى ما وفقت إليه.
كأن هذا الرجل وجد جواب الشبهة التي دارت في صدره وحارت، وطلب جوابها عند علماء البصرة وعلماء الكوفة وعلماء العراق، فلما أجابه الإمام مالك رحمه الله بهذا الجواب شفى ما في قلبه من شبهة، وأزال ما في قلبه من عارض، وهذا الجواب لم يكن جواباً مخترعاً من الإمام مالك رحمه الله، بل إنه قد نقل عن غيره من أئمة السلف، فهو منقول عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ مالك رحمه الله، وقد نقل عن بعض الصحابة كـ أم سلمة، فالمراد: أنه منقول عن غير واحد من سلف الأمة، وقد تلقاه علماء الأمة بالقبول، فكثير من أهل العلم يتناقل هذا القول ويحتج به، وهو قول مسدد في جواب هذه الشبهة.