قال المؤلف رحمه الله: [فإن الاختلاف في الفروع رحمة] : وقد جاء ما يشهد لهذا في كلام المؤلف رحمه الله فإنه قال: (واختلافهم رحمة) والاختلاف في الفروع العملية رحمة لما فيه من السعة، قال عمر بن عبد العزيز: (لم يسؤني أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اختلفوا، فإن في اختلافهم رحمة) وقال غير واحد من السلف: (في الخلاف توسعة) .
والمقصود بالخلاف: الخلاف في مسائل العمل لما فيه من التوسعة ورفع الحرج عن الناس.
قال المؤلف رحمه الله: [والمختلفون فيه محمودون] يعني: هذا الاختلاف لا يلحق المختلفين فيه ذنب، بخلاف الاختلاف الذي يكون في أصول الدين فإن أصحابه مذمومون وهم الذين قال الله جل وعلا فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} [الأنعام:159] ، فإن هؤلاء الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً هم الذين فرقوه في أصل الاعتقاد، فتشعبت بهم الطرق وكانوا شيعاً قال الله عز وجل: {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159] أي: ليس أتباعك، وقد برأ الله عز وجل رسوله منهم، فكل من فرق دينه ولم يعتصم بما جاء به الكتاب وما جاءت به السنة فقد دخل في الاختلاف المذموم، إذاً: عندنا اختلاف مذموم، واختلاف سائغ مقبول.
أما الاختلاف المذموم فهو الاختلاف الذي يكون في أصل الدين الذي يخالف به الإنسان طريق السلف الصالح.
وأما الاختلاف السائغ المقبول فهو: الاختلاف في مسائل الأحكام الفرعية.
وقوله رحمه الله: (والمختلفون فيه محمودون) ، أي أنهم لا يذمون؛ لأنهم مجتهدون فيما وقع بينهم من اختلاف، فلا يخرجون عن الأجر والأجرين، فمن أصاب منهم فله أجران ومن أخطأ منهم فله أجر.
قال المؤلف رحمه الله: [مثابون في اجتهادهم] أي: سواء أصابوا أم أخطئوا، ثم قال: [واختلافهم رحمة واسعة] وهذا جاء في كلام كثير من العلماء، وأما حديث: (اختلاف أمتي رحمة) فليس له إسناد يعتمد عليه، وقد تناقله بعض العلماء في كلامهم واستشهدوا به، لكن ليس له ما يستند إليه، أي: من حيث السند، أما الذي جاء بسند ضعيف فهو ما رواه البيهقي من حديث ابن عباس بلفظ: (واختلاف أصحابي رحمة) ، لكن الحديث ضعيف فيه تطاعن، وأيضاً في سنده راو متروك.
وقوله رحمه الله: (واختلافهم رحمة واسعة) هل هذا باعتبار الاختلاف ذاته أو باعتبار ما حصل به من التوسعة على الناس؟
صلى الله عليه وسلم باعتبار ما حصل به من التوسعة على الناس، وهل يعني هذا أن الاتفاق عذاب؟ الجواب: لا، فكون الاختلاف رحمة لا يعني أن الاتفاق عذاب، بل الاتفاق مطلوب ولذلك قال: [واتفاقهم حجة قاطعة] وإنما كان الاختلاف رحمة لما فيه من التوسيع على المجتهدين وعلى العاملين، أما على المجتهدين فالتوسعة عليهم أنهم إذا أخطئوا لا ينالهم ذنب باجتهادهم أو بخطئهم، بل ينالون الأجر لأجل اجتهادهم وإن كانوا لم يصيبوا الصواب.
وأما الناس الذين يقلدون ويسألون العلماء، فهؤلاء أيضاً يحصل عندهم سعة إذا أخذوا بقول أحد العلماء فيما ذهب إليه، ولذلك قال يحيى بن سعيد: (لم يكن الخلاف سبباً للهلاك فيمن كان قبلنا) ، يعني: من الصحابة، فإنهم كانوا يختلفون فيحلل أحدهم أمراً ويحرمه الآخر، فلا يرى من حلل أن المحرم قد هلك لتحريمه ولا يرى من حرم أن المحلل قد هلك بتحليله، فالخلاف فيه رحمة وتوسعة للناس، ولكن لا يعني ذلك أن اتفاقهم عذاب، فكون الشيء رحمة لا يلزم منه أن يكون المقابل عذاباً، ودليل ذلك أن الله عز وجل الليل رحمة لنا لنسكن فيه، فهل يعني هذا: أن النهار عذاب؟ الجواب: لا، فمقابل الليل النهار ومع ذلك لم يكن عذاباً، فالمقصود بالرحمة هو ما يحصل به من الرفق بهم والإحسان إليهم، ولا يعني هذا أن مضاده ومقابله يكون عذاباً.
قال رحمه الله: (واتفاقهم حجة قاطعة) يشير بذلك إلى الإجماع، فإن الإجماع حجة بكتاب الله عز وجل وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبإجماع السلف، لكن الاتفاق الذي يكون حجة قاطعة هو ما اتفق عليه علماء الإسلام، والإجماع المعتبر المنضبط هو ما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.