وهناك شفاعات للنبي صلى الله عليه وسلم يشركه فيها غيره من الرسل والأنبياء، وسائر أهل التقى من الصديقين والشهداء والصالحين، وذلك كشفاعته في قوم استحقوا النار أن يدخلوها فيشفع لهم ألا يدخلوها، وكذلك شفاعته وشفاعة أهل الإيمان في قوم دخلوا النار أن يخرجوا منها، وكذلك شفاعته صلى الله عليه وسلم وشفاعة أهل الإيمان في رفع درجات أهل الجنة، فهذه الأنواع الثلاثة من الشفاعات تكون للأنبياء صلى الله عليهم وسلم وتكون لغيرهم من المؤمنين، لكن نصيبه صلى الله عليه وسلم وما يكون له منها هل هو مثل غيره أو أعلى؟
صلى الله عليه وسلم نصيبه منها أعلى من نصيب غيره، فحظه من هذه الشفاعة أعلى من سائر الخلق.
وهذه الشفاعات كلها جاءت بها النصوص، وأجمع عليها سلف الأمة وعلماؤها وأثبتها أهل السنة والجماعة، وخالفت فيها ثلاث طوائف.
المعتزلة والخوارج: فهؤلاء لا يثبتون الشفاعة للنبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر؛ لأن من دخل النار عندهم لا يخرج منها أبداً.
ووافقهم في إنكار الشفاعة المرجئة الغلاة: فإنه لا يدخل عندهم النار مؤمن، ولو ارتكب ما ارتكب من الموبقات والسيئات والأعمال القبيحة، فهؤلاء وافقوا الخوارج في نفي الشفاعة، وقالوا: لا شفاعة، وما جاء من نصوص الشفاعة جعلوها في رفع الدرجات، وهذا تكذيب لما دلت عليه النصوص من شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره في أهل النار الذين استحقوها، أو الذين دخلوها أن يخرجوا منها.
يقول المؤلف رحمه الله: (ويشفع نبينا صلى الله عليه وسلم فيمن دخل النار من أمته من أهل الكبائر) ، أي: أهل الذنوب الكبيرة الموجبة لدخول النار، والكبائر: جمع كبيرة، وهي: كل ما جاءت النصوص بلعن صاحبه، أو التبري منه، أو ذكر عقوبة له في الدنيا أو الآخرة.
هذا أقرب ما يقال في ضابط وحدِّ الكبيرة، فهؤلاء أصحاب الكبائر يستحقون النار إن لم يتوبوا منها وكانت سيئاتهم راجحة على حسناتهم، فإذا دخلوها ليمحصوا فقد يشفع فيهم النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد أهل الإيمان ليخرجوا منها، وأدلة أحاديث الشفاعة أكثر من أن تحصى.
يقول رحمه الله: (فيخرجون بشفاعته بعد ما احترقوا وصاروا فحماً وحمماً) ، يخرجون بعدما احترقوا وعذبوا وعوقبوا وصاروا إلى هذه الحال فيخرجون فحماً وحمماً من جراء الاحتراق بالنار والاصطلاء بها.
نسأل الله السلامة والعافية، فيلقون في نهر الحياة عند أبواب الجنة، فينبتون فيه كما تنبت في حميل السيل، فينتعشون ويحيون ويكونون من أهل الجنة، فيدخلون الجنة بشفاعته صلى الله عليه وسلم.
ثم قال رحمه الله: (ولسائر الأنبياء والمؤمنين والملائكة شفاعات) ، وإنما قدم شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم مع أن غيره يشركه في هذا النوع من الشفاعة؛ لكونه صلى الله عليه وسلم أعظم الناس شفاعة، وأعظم الخلق شفاعة، فشفاعته فوق كل شفاعة، وإلا فإن الأنبياء والمؤمنين يشفعون والملائكة تشفع.