هذا الفصل ذكر فيه المؤلف رحمه الله ما يتعلق بالإيمان بالقدر، والإيمان بالقدر أصل من أصول الإيمان الذي لا يتم إيمان أحد إلا بها، فلابد للمؤمن أن يؤمن بالقدر خيره وشره، وكل من كان غير مؤمن بالقدر فإنه لم يحقق الإيمان الذي تحصل به النجاة من النار.
وقد دلت الأدلة في الكتاب والسنة، وأجمع سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وأئمة الدين على وجوب الإيمان بالقدر، وأنه ما من شيء إلا بقضاء وقدر، وقد قال ابن عباس رضي الله عنه في بيان منزلة الإيمان بالقدر: (الإيمان بالقدر نظام التوحيد، فمن كذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده) ، وهذا يدل على أن كل من لم يؤمن بالقدر فقد انتقض توحيده؛ لأن الإيمان بالقدر أساس التوحيد، فهذا معنى قوله رحمه الله: (نظام التوحيد) ، أي: به ينتظم وبه يستقيم وبه يستقر فمن لم يؤمن بالقدر لا توحيد له، ومن لم يؤمن بالقدر لا إيمان له، فالإيمان بالقدر أصل من أصول الدين، ومن أصول الإيمان وأركانه التي لا يتم إيمان أحد إلا بها.
وقد قال ابن عمر رضي الله عنه لما بلغه إنكار من ينكر الإيمان بالقدر ويقول: إن الأمر أنف، قال: (والذي نفس ابن عمر بيده، لو أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر) ، وجاء مثل هذا عن غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم.
وقد أخرج الإمام أحمد وأصحاب السنن والدارقطني وابن حبان وابن خزيمة وغيرهم من أئمة أهل السنة حديث عبد الله بن فيروز بن الديلمي الذي جاء إلى أبي بن كعب فقال: إن في نفسي شيئاً من القدر، فحدثني لعل الله أن يذهبه عني، فقال له أبي رضي الله عنه: (إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو أنه رحم أهل سماواته وأهل أرضه لكانت رحمته لهم، وإنه لو أنفق أحد مثل جبل أحد ذهباً لم يتقبله الله منه حتى يؤمن بالقدر، ثم قال له: وائت ابن مسعود فاسأله) .
يقول ابن الديلمي: فأتيت ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت، فكلهم حدثني بما حدثني به أبي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على أن الصحابة رضي الله عنهم مجمعون على الإيمان بالقدر، وأنه من لم يؤمن بالقدر مات على غير الإسلام.
ولذلك جاء في حديث عبادة بن الصامت في وصيته لابنه الوليد بن عبادة لما قال له: واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة) وفي رواية: (فمن مات على غير هذا أحرقه الله بالنار) فدل ذلك على وجوب الإيمان بالقدر.
وأمر القدر أمر خطير عظيم، إنكاره ينقض التوحيد كما ذكرنا في كلام ابن عباس رضي الله عنه، وهو تكذيب للقرآن وانتقاص لرب العالمين، ولذلك لما سئل الإمام أحمد رحمه الله عن القدر قال: القدر قدرة الله عز وجل؛ فمن أنكر القدر فقد أنكر قدرة الله جل وعلا.
وكل هذا يبين لنا منزلة الإيمان بالقدر، وأن الاختلال في الإيمان به اختلال في أصل الإيمان؛ ولذلك لا يخلو كتاب من كتب الاعتقاد من الحديث عن القدر وبيان منزلته، وبيان ما الذي يجب فيه.