وَالمعنَى أنَّ مَحَبَّةَ الله إِذَا استَغْرَقَ بِها القَلْبُ واسْتَولَت عَلَيهِ، لَمْ تَنْبَعِث الجَوَارِحُ إِلاَّ إِلى مَرَاضِي الرَّبِّ، وَصَارَت النَّفْسُ حِينَئِذٍ مُطْمَئِنَّةً، فَفَنِيَتْ بِإِرَادَةِ مَولاَهَا عَن مُرَادِهَا وَهَوَاهَا.
يا هَذَا اعْبُد اللَّهَ لِمُرَادِهِ مِنكَ لا لِمُرَادِكَ مِنهُ, فَمَن عَبَدَهُ لِمُرَادِهِ مِنهُ فَهو مِمَّن يَعبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ، إِن أَصَابَهُ خَيرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وإِن أَصَابَتهُ فتنةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجهِهِ خَسِرَ الدُّنيَا والآخِرَةَ.
وَمَتَى قَوِيتِ المعرِفَةُ والمحَبَّةُ لَمْ يُرِد صَاحِبُهَا إلاَّ مَا يُرِيدُهُ مَولاهُ، وَفي بَعضِ الكُتُبِ السَّالِفَةِ: (مَن أَحَبَّ الله لَمْ يَكُن شَيءٌ عِندَهُ آثَرُ مِن رِضَاهُ، وَمَن أَحَبَّ الَّدُنيَا لَمْ يَكُن شَيءٌ عِندَهُ آثَرُ مِن هَوَى نَفْسِهِ) (?).
وَرَوَى ابنُ أبي الدُّنيَا بِإِسنَادِهِ عن الحَسَنِ، قَالَ: مَا نَظَرْتُ بِبَصَرِي، وَلاَ نَطَقْتُ بِلِسَانِي، وَلاَ بَطَشْتُ بِيَدِي، وَلاَ نَهَظْتُ عَلَى قَدَمِي، حَتَّى أَنْظُرَ عَلَى طَاعَةٍ أو مَعصِيَةٍ، فَإِن كَانَت طَاعَةً تَقَدَّمْتُ، وَإِنْ كَانَت مَعْصِيَةً تَأَخَّرْتُ (?).
هَذَا حَالُ خَوَاصِّ المحِبِّينَ [الصَّادِقِينَ]، فَافْهَمُوا رَحِمَكُمُ الله هَذَا؛ فَإنَّه مِن دَقَائِقِ أَسْرَارِ التَّوحِيدِ الغَامِضَة.
وَإِلى هَذَا المقَامِ أَشَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في خُطْبَتِهِ لَمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ، حَيثُ قَالَ: «أَحِبُّوا الله مِن كُلِّ قُلُوبِكُم» وَقَد ذَكَرَهَا ابنُ إِسحَاقَ وغَيرُه (?).