والقسم الثاني من يعتقد أن كل ذلك كرامات لا يفرق بين الكرامة والدجل، ولا بين الكرامة والكهانة والمخرقة والشعوذة، يجعلها من باب واحد، فكل ما كان خارقاً يعتقد أنه كرامة، ولذلك أتي كثير من أهل البدع خاصة العامة والسذج من هذا الباب، حيث يرون أو يزعمون أن كل ما يظهر من هذه الأمور الخارقة للعادة لا يظهر إلا بتأييد من الله عز وجل وأنه دليل على رضا الله عن العبد وعن عمله، وهذا أيضاً خطأ.
والقول الثالث هو قول أهل الحق: وهو أن هذه الأمور منها ما هو حق ومنها ما هو باطل، والباطل يكون مما يرى ويعاين، فليس هناك ما يمنع أن يرى الناس شيطاناً ويتمثل بنبي أو ولي.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فالأول يقول: إنما هذا خيال في أنفسهم لا حقيقة له في الخارج، فإذا قالوا ذلك لجماعة بعد جماعة فمن رأى ذلك وعاينه موجوداً أو تواتر عنده ذلك عمن رآه موجوداً في الخارج وأخبره به من لا يرتاب في صدقه كان هذا من أعظم أسباب ثبات هؤلاء المشركين المبتدعين المشاهدين لذلك والعارفين به بالأخبار الصادقة.
ثم هؤلاء المكذبون لذلك متى عاينوا بعض ذلك خضعوا لمن حصل له ذلك وانقادوا له واعتقدوا أنه من أولياء الله، مع كونهم يعلمون أنه لا يؤدي فرائض الله حتى ولا الصلوات الخمس، ولا يجتنب محارم الله لا الفواحش ولا الظلم، بل يكون من أبعد الناس عن الإيمان والتقوى التي وصف الله بها أولياءه في قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63]].
معنى هذا أنهم اختلت عندهم القواعد الشرعية التي يلزم بها الحق، ويفرق بها بين الحق والباطل، ومن أهم هذه القواعد أن يكون الإنسان الذي تحدث منه هذه الأمور على الاستقامة، والاستقامة لا تكفي فيها الدعوى، ولكن أن يكون مقيماً لدين الله عز وجل مؤدياً شعائر الله، خالياً من البدع والخرافات.
فهؤلاء الذين يحكمون لأهل المخارق البدعية بأنهم أولياء الله يجهلون الموازين الشرعية فلا يفرقون بين حقيقة الولاية والعكس، وذلك إما لجهلهم، أو لأنهم اعتقدوا عقائد باطلة فخرجوا بها على الحق، أو للتقليد الأعمى، وأغلب ما يوقع العامة في هذه الأمور التسليم الأعمى لشيوخهم من المتصوفة، فلا يحكمون عقولهم فضلاً عن أن يحكموا الشرع، وإلا فكيف يوقن عاقل بأن الذي يرتكب كبيرة من الكبائر علناً أو يجاهر بالفواحش أن له كرامة ثم يصدق.
والصوفية في واقعهم وفي كتبهم التي يقرونها ويدافعون عنها ملئوا أخبارهم وأحوالهم بوجود أناس من شيوخهم يفعلون الفواحش ويرتكبون الموبقات، ثم يفسرها الأتباع بأنها كرامات، يتركون الفرائض علناً، ويهجرون الصلوات، ولا يصومون ولا يحجون ثم يفسر هذا بأنه كرامات.
فأقول: إن من أسباب وقوع الناس في مثل هذه الأمور التقليد الأعمى والتبعية بغير تبصر، هذا بالنسبة للعامة والغوغاء، أما الرءوس فلاشك أنه لا يقع في هذا إلا مبطل، يجني من مثل هذه الأعمال فوائد معنوية ومادية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فيرون من هو مِن أبعد الناس عن الإيمان والتقوى له من المكاشفات والتصرفات الخارقات ما يعتقدون أنه من كرامات أولياء الله المتقين.
فمنهم من يرتد عن الإسلام وينقلب على عقبيه، ويعتقد فيمن لا يصلي بل ولا يؤمن بالرسل، بل يسب الرسل ويتنقص بهم أنه من أعظم أولياء الله المتقين.
ومنهم من يبقى حائراً متردداً شاكاً مرتاباً، يقدم إلى الكفر رجلاً وإلى الإسلام أخرى، وربما كان إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان.
وسبب ذلك أنهم استدلوا على الولاية بما لا يدل عليها، فإن الكفار والمشركين والسحرة والكهان معهم من الشياطين من يفعل بهم أضعاف أضعاف ذلك قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء:221 - 222].
وهؤلاء لابد أن يكون فيهم كذب وفيهم مخالفة للشرع، ففيهم من الإثم والإفك بحسب ما فارقوا أمر الله ونهيه الذي بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم، وتلك الأحوال الشيطانية نتيجة ضلالهم وشركهم وبدعتهم وجهلهم وكفرهم وهي دلالة وعلامة على ذلك، والجاهل الضال يظن أنها نتيجة إيمانهم وولايتهم لله تعالى، وأنها علامة ودلالة على إيمانهم وولايتهم لله سبحانه.
وذلك أنه لم يكن عنده فرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان كما قد تكلمنا على ذلك في مسألة: الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ولم يعلم أن هذه الأحوال التي جعلها دليلاً على الولاية تكون للكفار من المشركين وأهل الكتاب أعظم مما تكون للمنتسبين إلى الإسلام، والدليل مستلزم للمدلول مختص به لا يوجد بدون مدلوله، فإذا وجدت للكفار والمشركين وأهل الكتاب لم تكن مستلزمة للإيمان فضلاً عن الولاية، ولا كانت مختصة بذلك، فامتنع أن تكون دليلاً عليه.
وأولياء الله هم المؤمنون المتقون، وكراماتهم ثمرة إيمانهم وتقواهم لا ثمرة الشرك والبدعة والفسق، وأكا