قال رحمه الله تعالى: [لأنه -أولاً- لم يثبت، وليس في الآية ما يدل عليه، ولو ثبت لم يلزم أن يكون هذا شرعاً لنا؛ فإن الله تعالى قد أخبر عن سجود إخوة يوسف وأبويه، وأخبر عن الذين غلبوا على أهل الكهف أنهم قالوا: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} [الكهف:21]، ونحن قد نهينا عن بناء المساجد على القبور، ولفظ الآية إنما فيه أنهم كانوا يستفتحون على الذين كفروا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به].
أي: لو ثبت -جدلاً- الحديث، أو أن اليهود كانوا يقولون: اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي، فإنه من قولهم، وهم ليسوا قدوة لنا، وليس شرعهم من شرعنا، وهذا الذي فعلوه كان قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، فلو افترضنا أنهم فعلوه فليس من شرع محمد صلى الله عليه وسلم الذي يجب أن نتبعه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا كقوله تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ} [الأنفال:19]، والاستفتاح طلب الفتح وهو النصر.
ومنه الحديث المأثور أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح بصعاليك المهاجرين، أي: يستنصر بهم، أي: بدعائهم، كما قال: (وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم، بصلاتهم ودعائهم وإخلاصهم؟!).
وهذا قد يكون بأن يطلبوا من الله تعالى أن ينصرهم بالنبي المبعوث في آخر الزمان، بأن يعجل بعث ذلك النبي إليهم لينتصروا به عليهم، لا لأنهم أقسموا على الله وسألوا به؛ ولهذا قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89]، فلو لم ترد الآثار التي تدل على أن هذا معنى الآية؛ لم يجز لأحد أن يحمل الآية على ذلك المعنى المتنازع فيه بلا دليل؛ لأنه لا دلالة فيها عليه، فكيف وقد جاءت الآثار بذلك؟ وأما ما تقدم ذكره عن اليهود من أنهم كانوا ينصرون، فقد بيَّنا أنه شاذ، وليس هو من الآثار المعروفة في هذا الباب، فإن اليهود لم يعرف أنها غلبت العرب، بل كانوا مغلوبين معهم، وكانوا يحالفون العرب، فيحالف كل فريق فريقاً، كما كانت قريظة حلفاء الأوس، وكانت النضير حلفاء الخزرج].
المقصود بذلك: أن أهل البدع الذين يستدلون بهذا الموضوع فيدعون أن اليهود كانوا إذا قالوا هذا الدعاء الذي هو التوسل -بزعمهم- بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بحقه، أنهم كانوا ينصرون، فيقول الشيخ: هذا خلاف الواقع، فإن اليهود ما كانوا ينصرون، بل كانوا دائماً يغلبون، ولم يكونوا ينصرون إلا بالتحالف مع آخرين، فيكون الناصر لهم من غيرهم ممن ينتصرون به.
فيقول: أصل الملابسات التي وضع لها هذا الحديث أيضاً غير صحيحة، مما يدل على أن في هذا الاستدلال شك من أصله في سنده وفي لفظه.
قال رحمه الله تعالى: [وأما كون اليهود كانوا ينتصرون على العرب فهذا لا يعرف، بل المعروف خلافه، والله تعالى قد أخبر بما يدل على ذلك، فقال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [آل عمران:112].
فاليهود -من حين ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس- لم يكونوا بمجردهم ينتصرون لا على العرب ولا غيرهم، وإنما كانوا يقاتلون مع حلفائهم قبل الإسلام، والذلة ضربت عليهم من حين بعث المسيح عليه السلام فكذبوه، قال تعالى: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:55].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف:14].
وكانوا قد قتلوا يحيى بن زكريا وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة:61]].
واقع اليهود كما ذكر الشيخ أنه كتب الله عليهم الذلة، فإنهم لا ينصرون إلا بحبل من الله وحبل من الناس، أما الحبل من الله فمنها أن الله عز وجل جعلهم عقوبة على المسلمين، أو على غيرهم من