قال رحمه الله تعالى: [وأما السفر للحج فواجب، وأما السفر إلى مسجده للصلاة فيه، والسفر إلى المسجد الأقصى للصلاة فيه فهو مستحب، والسفر إلى الكعبة للحج فواجب، فلو سافر أحد السفر الواجب والمستحب لم يكن مثل واحد من الصحابة الذين سافروا إليه في حياته، فكيف بالسفر المنهي عنه؟ وقد اتفق الأئمة على أنه لو نذر أن يسافر إلى قبره صلوات الله وسلامه عليه أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين لم يكن عليه أن يوفي بنذره، بل ينهى عن ذلك، ولو نذر السفر إلى مسجده والمسجد الأقصى للصلاة ففيه قولان للشافعي أظهرهما عنه: يجب ذلك، وهو مذهب مالك وأحمد.
والثاني: لا يجب، وهو مذهب أبي حنيفة؛ لأن من أصله أنه لا يجب من النذر إلا ما كان واجباً بالشرع، وإتيان هذين المسجدين ليس واجباً بالشرع فلا يجب بالنذر عنده.
وأما الأكثرون فيقولون: هو طاعة لله، وقد ثبت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)، وأما السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين فلا يجب بالنذر عند أحد منهم لأنه ليس بطاعة، فكيف يكون من فعل هذا كواحد من أصحابه؟ وهذا مالك كره أن يقول الرجل: زرت قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعظمه، وقد قيل: إن ذلك لكراهية زيارة القبور.
وقيل: لأن الزائر أفضل من المزور، وكلاهما ضعيف عند أصحاب مالك].
بعض أهل العلم يرى أنه لا تجوز أو لا تشرع زيارة القبور إلا إذا جاءت من غير قصد، كما إذا ذهب الإنسان لدفن ميت مثلاً أو مر عابراً فإنه يسلم على أهل المقابر، والمسألة فيها نزاع بين أهل العلم وإن كان الصحيح أنه يشرع زيارة القبور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة)، فهنا قول مالك يتوافق مع قول طائفة من أهل العلم الذين يرون كراهة القصد لزيارة القبور، أي أن هذا الرأي وإن كان مرجوحاً إلا أنه يحمل عليه قول مالك، وسيأتي عن الشيخ ما هو الصحيح عن مالك.
قال رحمه الله تعالى: [والصحيح أن ذلك؛ لأن لفظ زيارة القبر مجمل يدخل فيها الزيارة البدعية التي هي من جنس الشرك، فإن زيارة قبور الأنبياء وسائر المؤمنين على وجهين كما تقدم ذكره].
إذاً: الإمام مالك كره أن يقول: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الزيارة تشتبه بالزيارة البدعية؛ لأن الزيارات البدعية يبدو أنها ظهرت في عهد مالك، ولذلك كثر إنكاره على هذه الأمور.