قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والذي قاله أبو حنيفة وأصحابه وغيرهم من العلماء من أنه لا يجوز أن يسأل الله تعالى بمخلوق، لا بحق الأنبياء ولا غير ذلك يتضمن شيئين كما تقدم].
استطرد الشيخ في هذه المسألة، قوله: أن أبا حنيفة وأصحابه وغيرهم من العلماء قالوا: من أنه لا يجوز أن يسأل الله تعالى بمخلوق، تكلم عنه الشيخ قبل قليل من وجه، وهو ما قصده في بداية الدرس في قوله: فيقال للمنازع وقصده أن هؤلاء العلماء منعوا هذه العبارة بإطلاق، مع أنها تحتمل معنى صحيحاً، هذا وجه من التفصيل في هذه العبارة، والوجه الثاني أيضاً ما سيذكره الآن من أن هذه الكلمة تتضمن شيئين: قال رحمه الله تعالى: [أحدهما: الإقسام على الله سبحانه وتعالى به، وهذا منهي عنه عند جماهير العلماء كما تقدم].
لأنه حلف بغير الله على القول بأنه يمين، ومن ناحية أخرى أنه من باب التألي على الله عز وجل، وهذا لا يجوز.
قال رحمه الله تعالى: [كما يُنهى أن يقسم على الله بالكعبة والمشاعر باتفاق العلماء.
والثاني: السؤال به، فهذا يجوّزه طائفة من الناس].
أي: السؤال به على التفصيل السابق، فإن كان المقصود به بعمله أو بذاته فإن هذا لا يجوز، وإن كان السؤال بحبه له وهو ممن يُحب في الله عز وجل بأمر مشروع، كالسؤال بحب النبي صلى الله عليه وسلم والسؤال بطاعته ونحو ذلك، فهذا جائز، ولذلك سيذكر الشيخ هذه الصورة استطراداً في تفصيل المسألة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فهذا يجوزه طائفة من الناس، ونقل في ذلك آثار عن بعض السلف، وهو موجود في دعاء كثير من الناس، لكن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كله ضعيف بل موضوع، وليس عنه حديث ثابت قد يُظن أن لهم فيه حجة، إلا حديث الأعمى الذي علمه أن يقول: أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة.
وحديث الأعمى لا حُجة لهم فيه، فإنه صريح في أنه إنما توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته، وهو طلب من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء، وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: (اللهم شفعه في)، ولهذا رد الله عليه بصره لما دعا له النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك مما يُعد من آيات النبي صلى الله عليه وسلم، ولو توسل غيره من العُميان الذين لم يدع لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالسؤال به لم تكن حالهم كحاله.
ودعا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في الاستسقاء المشهور بين المهاجرين والأنصار وقوله: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، يدل على أن التوسل المشروع عندهم هو التوسل بدعائه وشفاعته لا السؤال بذاته، إذ لو كان هذا مشروعاً لم يعدل عمر رضي الله عنه والمهاجرون والأنصار رضي الله عنهم عن السؤال بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى السؤال بـ العباس رضي الله عنه].
هذه الحجة ظاهرة، وهي من أقوى الحجج على أهل البدع، فإن القصة قصة استشفاع الصحابة وتوسلهم بـ العباس دليل ظاهر في منطوقه ومفهومه وفي فحواه على أنه لا يجوز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، أي التوسل بذاته أو دعائه؛ لأنه لو كان التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم والاستشفاع به بعد وفاته جائزاً فلا يمكن للصحابة رضي الله عنهم أن يعدلوا عن الاستشفاع بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى الاستشفاع بغيره كائناً من كان وهو بين ظهرانيهم، ما كان هذا الاستشفاع في مكة حتى نقول إن النبي صلى الله عليه وسلم بعيد عنهم في المدينة، هذه القصة حصلت في المدينة والرسول صلى الله عليه وسلم بين ظهراني الصحابة أي في قبره، ومع ذلك نظراً لأنه لا يجوز التوسل به بعد وفاته؛ لأنه لا يمكن أن يتمكن من الدعاء فإن الصحابة رضي الله عنهم استشفعوا بـ العباس.
ثم ألفاظ عمر أيضاً: اللهم إنا كنا نستشفع بنبيك، ثم عدل بعد ذلك إلى الاستشفاع بعم نبيه صلى الله عليه وسلم، هذا دليل قاطع على أنه لا تجوز الصورة الأولى التي كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وشاع النزاع في السؤال بالأنبياء والصالحين دون الإقسام بهم؛ لأن بين السؤال والإقسام فرقاً، فإن السائل متضرع ذليل يسأل بسبب يناسب الإجابة، والمقسم أعلى من هذا، فإنه طالب مؤكد طلبه بالقسم، والمقسم لا يقسم إلا على من يرى أنه يبر قسمه، فإبرار القسم خاص ببعض العباد].
قوله: (خاص ببعض العباد) أي: الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من العباد من لو أقسم على الله لأبره) وهذا قليل، فالقسم على الله الأصل فيه عدم الجواز، لكنه قد يحدث من بعض الناس إما لجهلهم بالحكم أو عند ضرورة يتجاوزون بها هذا الحد من باب التأوّل أو الترخّص، أو نحو ذلك مما حدث من بعض الصحابة وغيرهم.