ثم في قصة أصحاب البدعة الذين اطلع على حالهم أبو موسى الأشعري ثم أشعر عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما بعض الوقفات التي ينبغي أن نستفيدها: أولاً: قول أحد رواة الأثر: (كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد) وهذا يؤكد نهجاً من مناهج المسلمين في طلب العلم، وهو الحرص على تلقي العلم واغتنام جميع الفرص للاستفادة من علم العلماء.
فهؤلاء من حرصهم لم يكتفوا في أخذ العلم بالدروس التي كان ابن مسعود وغيره من الصحابة يلقونها في المساجد والمجامع وفي غيرها، بل كانوا يحرصون على تلقي العلم من العالم حتى وهو يمشي إلى المسجد أو يمشي إلى حاجة من الحاجات، وكانوا يقفون -أي: طلاب العلم- عند أبواب العلماء، حتى إذا خرجوا استثمروا أوقاتهم معهم، وأخذوا من الدرر العلمية والفقهية من هؤلاء العلماء.
ثم ذكر أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه خرج إليهم، وقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن؟ يعني: عبد الله بن مسعود، وهذا يشير إلى أدب العلماء مع بعضهم، أبو موسى وابن مسعود كلهم صحابة كبار، وكلهم علماء، لكن مع ذلك تواضع أبو موسى الأشعري إلى حد أنه وقف موقف التلميذ الصغير في صيغته للسؤال، وفي أدبه، وفي عدم استعجاله، وعدم دخوله على ابن مسعود بطريقة غير مناسبة وصبر وصار ينتظر أخاه ابن مسعود كما ينتظر الطلاب والتلاميذ الصغار الذين عند الباب، وسألهم: هل خرج؟ وكان بإمكانه أن يطرق عليه الباب، لكنه التزم الأدب، لا سيما والأمر بالميزان الشرعي خطير؛ لأنه رأى بدعة عظيمة استهولها واستعظمها.
قال: (فلما خرج قمنا إليه جميعاً، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن!) انظر الاستهلال في الحديث، فيه قمة الرفق والأدب وحسن المدخل، وهو لا يريد أن يثير انفعال ابن مسعود رضي الله عنه؛ لأن القضية خطيرة، فاستهل بكلام مناسب أراد أن يدخل به في علاج هذه القضية، قال: (يا أبا عبد الرحمن! إني رأيت في المسجد آنفاً أمراً أنكرته، ولم أر -والحمد لله- إلا خيراً)، خير لكنه على وضع منتقد؛ لأنهم يسبحون ويهللون، لكن الوضع الذي سبحوا به وهللوا وضع مبتدع، فانظر إلى تعبير العالم الفقيه بحسنه وجودته.
قال: (فما هو؟ قال: إن عشت فسترى، ثم قال: رأيت في المسجد قوماً حلقاً) إلخ القصة، وذكرها مفصلة.
ثم ذهب ابن مسعود إلى هؤلاء القوم وحصل بينهم ما حصل، وورد أنه حثا عليهم التراب، وأنه عنفهم وأخرجهم من المسجد إلخ.
ثم قال ابن مسعود لـ أبي موسى: (أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء) ثم كرر هذه العبارة فيما بعد قال: (فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن ألا يضيع من حسناتكم شيء)، نستفيد من هذا أنه لا ينبغي للمسلم أن يتجاوز ما شرع الله عز وجل عند أداء العبادة؛ لأن ما شرعه الله فيه الكفاية، فلا يجوز للمسلم أن يغلو ولا يزيد بدعوى أنه يريد أن يزيد من التطوع، أو يزيد من الحسنات؛ فإن الحسنات والأجر في التزام ما شرعه الله عز وجل، وفيما شرعه الله الكفاية، وفي التجاوز الابتداع؛ ولذلك قال: فعدوا سيئاتكم) بمعنى: إن كنتم حريصين على التقوى والورع والاستقامة والتعبد لله عز وجل؛ فكفوا عن السيئات واحرصوا على ما شرعه الله من العبادات وفعل الخيرات، ففي هذا الكفاية، أما أن تزيدوا في الدين فهذا من الابتداع؛ ولذلك نجد أن ابن مسعود عارض هذه المسائل وهي في ميزان الناس اليوم تعتبر مسائل صغيرة، لكنه عارضها بشدة وقوة، مثل التسبيح بالحصى، وبعض الناس قد يقول: المسألة سهلة، وبدل أن أسبح بالأصبع أسبح بالحصى أو بالعد، والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر أحياناً أعداداً للتسبيح والتكبير، لكن أسلوب العد فيه نكارة، ثم أداء العبادة بشكل جماعي هذا إضافة بدعية ليست من السنة.
إذاً: هذه الأمور مستصغرة عند الناس، لكن مع ذلك أنكرها ابن مسعود وأيده على ذلك الصحابة، أنكرها إنكاراً شديداً حتى صار منه ما صار من ذلك الموقف الحازم من هؤلاء القوم، وتفرست فيهم؛ لأن سياق القصة كان لها مراحل، وهؤلاء القوم الذين نهاهم ابن مسعود لم ينتهوا كلهم، بل ربما انتهى بعضهم، فذهبوا يعملون أشياء من ضمنها أنهم خصصوا مسجداً للعبادة يتعبدون فيه غير مساجد المسلمين، خصصوا مسجداً من المساجد يجتمعون فيه، فنهاهم وأخرجهم منه، ثم لما رأوا أنه يتتبعهم خصصوا مسجداً لهم ثم أمر بهدمه، ثم خصصوا دويرة لهم فأمر بهدمها، فتتبعهم، فلما رأى منهم الإصرار على البدعة وأنهم لا يفقهون ولا يطيعون من هو أفقه منهم، ولا يرجعون إلى الحق ولا يرعوون؛ توسم فيهم أن يكونوا من الخوارج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصف الخوارج بأوصا